هل “إسرائيل” جاهزة فعلاً لحرب واسعة ضد لبنان؟
إبراهيم الأمين – صحيفة الأخبار
لا حاجة إلى ذكر الأسباب الموجبة التي قد تدفع العدوّ إلى خيار مجنون كشنّ حرب واسعة ضدّ لبنان. درجة الحافزية عالية جدًا عند العسكريين والسياسيين. وحتّى المستوطنون، الذين يلمسون عجز جيشهم عن إعادتهم إلى المستعمرات، يعتقدون بأن جيشهم قادر على سحق حزب الله.ثمة أسباب كثيرة تعزّز نظرية الحرب عند العدوّ. أولها فشل الحملة على غزّة، وانعكاساته الكبيرة على موقع “إسرائيل” في المنطقة، وأن “إسرائيل” ستكون أمام أيام صعبة في ظلّ وجود “عدوّ لئيم” مثل حزب الله الذي تحمّله مسؤولية كبيرة عما جرى في غزّة، وفي كلّ فلسطين المحتلة. وفوق ذلك، توجد على طاولة أصحاب القرار في “تل أبيب” طلبات متواصلة من “عرب إسرائيل” تدعوها إلى توجيه ضربة قاضية إلى الحزب، إذ إن هؤلاء (وبينهم للأسف قسم من مجانين لبنان) يرون في انتهاء الحرب وبقاء حزب الله على قوته كارثة لهم، وخسارة أكبر في لبنان وسورية والعراق، وربما في بلدان جديدة ستنضمّ إلى مسيرة المقاومة في المنطقة.
لكن السؤال الأهم: هل “إسرائيل” في وضع داخلي وعسكري وإقليمي ودولي يمكّنها من خوض معركة كهذه؟
منذ عملية “طوفان الأقصى” المجيدة، كانت الفضيحة مدوّية في منظومة التقدير الاستخباراتي والاستراتيجي في الكيان، بسبب فشل استخباراتي يتجاوز العجز عن الوصول إلى معلومات صحيحة، ليصيب منطق التفكير وتحكّم العقل الاستعلائي بقادة العدوّ وأجهزته. والجهات التي غاب عنها هذا التقدير، هي نفسها التي عادت وكرّرت الخطأ نفسه، عندما قرّر جيش الاحتلال قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، بناءً على تقدير بأن إيران ستبتلع الضربة ولن تردّ. وهي الجهات نفسها التي قالت إن “خطر” الحوثيين يخشاه “الضعفاء من العرب الموجودين حول اليمن”، وفاتهم أن الولايات المتحدة، نفسها، تقف اليوم عاجزة أمام حفنة من المسيّرات والصواريخ اليمنية. وجهات التقدير نفسها هي من تقول اليوم إن الجيش قادر على إنجاز المهمّة في لبنان.
ما حصل في غزّة كان عبارة عن عملية نارية انتقامية ليس فيها أيّ عمل مهني بالمعنى التقليدي للمعارك العسكرية. وهي عملية لم تكن لتحصل من دون دعم كامل من الولايات المتحدة والغرب، وكلّ الذخائر التي استخدمت ما كانت لتصل إلى “إسرائيل” لولا فتح الغرب مخازنه، إذ ليست لدى “إسرائيل” القدرة على إنتاج نصف ما استهلكته من قوة نارية في القطاع. بهذا المعنى، فإن السؤال مشروع حول حجم مخزون العدوّ الذي يقول إنه يحتاج إلى ضعفه في مواجهة لبنان، فهل تتّكل “إسرائيل” على تدخّل أميركي أكبر؟
أمر آخر، هو أن العدوّ الذي يعتمد على مفهوم الردع كوسيلة أساسية في مواجهة أعدائه، يجد صعوبة في التعامل مع قدرة الردع في مواجهة حماس في غزّة، وحزب الله أيضًا. وفي حالة لبنان، يعرف العدوّ قبل غيره أن حزب الله هو من بدأ المعركة، وهو من يختار توقيت عملياته والأهداف، وفي كلّ مرة يحاول فيها العدوّ الرد بسقف أعلى بقصد ردع الحزب، يأتيه الردّ بسقف أعلى مما كان يتوقع. وخلاصة هذا التسابق أن فكرة التصعيد إلى أبعد الحدود، لردع المقاومة، لم تعد مجدية في المعركة القائمة. حتّى الرد على عملية أمس، لن يكون له معنى في حال بقي ضمن قواعد المواجهة بين عسكريين. وبمعزل عن طبيعة الرد، فإن برامج عمل المقاومة ستفرض رفعًا للسقف في مواجهة العدو، وضمن القواعد نفسها.
أما لجوء العدوّ إلى إطلاق حملة جوية كبيرة تستهدف قصف آلاف الأهداف التي خزنتها استخباراته العسكرية، فيتطلّب، عمليًا، تدمير عدد هائل من المنشآت المدنية. وهو يدرك أنه سيكون مسؤولًا عن إطلاق الرصاصة الأولى في حرب كبيرة، ولن يجد في العالم من يبرّر له حملته، وسيجعل “إسرائيل” في موقف أكثر ضعفًا ضمن نادي المساعي الديبلوماسية العالمية، في ما هي تقف اليوم في الجانب المنبوذ عالميًا.
يبقى الأمر الأخير، المتعلّق بالحرب نفسها. نعرف جميعًا أن العدوّ يتعامل مع لبنان وحزب الله بشكل مختلف عن غزّة وحماس. وتبيّن بوضوح أنه ركّز جهده العسكري والأمني والسياسي خلال العقد الأخير على جبهته الشمالية. وإذا كان العدوّ أكثر استعدادًا للتعامل مع حزب الله، فإن مواجهات الأشهر الثمانية الماضية قدّمت صورة عما يعرفه عن المقاومة. صحيح أن الغارات لم تضرب أهدافًا بإمكان العدوّ الوصول إليها، بشريًا أو عسكريًا، لكنّه يعرف جيدًا أن المقاومة في لبنان بادرت، سريعًا، إلى خطط بديلة للانتشار والتموضع والتخزين في ضوء ما تقوم به “إسرائيل” في غزّة. بمعنى آخر، فإن غياب عنصر المفاجأة من جانب العدو، وحرب الاستنزاف القائمة منذ ثمانية أشهر، والاستعداد الواضح من جانب المقاومة لاحتمال الحرب الكبيرة، كلّ ذلك يجعل بنك الأهداف أقلّ قيمة. ومع ذلك، لن يكون بمقدور العدوّ سوى اللجوء إلى القوّة النارية للتعويض عن عجزه العسكري.
وفوق ذلك، لمست المقاومة في لبنان حجم ونوعية جهوزية الجبهة الداخلية في كيان الاحتلال. وتكفي مراجعة تعامل العدوّ مع مشكلة إيواء المستوطنين الذين أُبعدوا عن مستعمرات الشمال، وكيفية تعامل أجهزته المدنية مع آثار المعارك، وما قام به في مواجهة “حفلة النيران” قبل يومين، إضافة إلى الانتكاسات الكبيرة والمتفاقمة في الوضع الاقتصادي… إذ إن كلّ ذلك يقود إلى نتيجة واضحة، هي أن العدوّ لا يمكنه أن يعد شعبه بأيّ نوع من الأمان في حال اندلاع المواجهة الكبيرة.
أما عسكريًا، فإن جيش الاحتلال الذي يريد شن حملة على لبنان غير قادر حتّى اللحظة على تحشيد قواته بالطريقة التي تعوّد عليها. يعرف الجميع أن جيش العدوّ ينتشر بطريقة سرية جدًا، ويتحرك بصعوبة بالغة في عمق يصل إلى نحو عشرة كيلومترات بعيدًا عن حدود لبنان، وهو يعمد إلى عمليات تمويه أكبر في مواقع أبعد من ذلك، إضافة إلى أن معظم مواقعه عند الحافة الأمامية خالية إلا من بعض جنود يمضون معظم أوقاتهم في غرف محصّنة. وفي العملية التي نفّذها مقاومون قبل أيام باتّجاه موقع راميا الحدودي، لم تطلق نيران من الموقع، وهذا له تفسيرات عسكرية كبيرة.
من جهة ثانية، فإن العدوّ الذي يلجأ إلى منظومة خاصة من الدفاع الجوي لمواجهة صواريخ حزب الله ومسيّراته، لا يملك حلًا سحريًا غير مشاريع القبب الحديدية على أنواعها. ومع أن هذا السلاح يحتاج أيضًا إلى تغذية كبيرة من جانب الغرب والأميركيين على وجه التحديد، فإن عمليات المقاومة في لبنان أظهرت أنه عاجز عن القيام بوظيفته، بل أكثر من ذلك، نجحت المقاومة في تعطيل عدد غير قليل من منظومات الدفاع الجوي، سواء تلك الخاصة بمنظومة الرادارات والاستشعار، أو منظومة الصواريخ المضادة. وأظهرت المقاومة في لبنان قدرة خاصة على العمل بحرية كبيرة في الأجواء الفلسطينية، وهي لم تستخدم حتّى اللحظة سوى جيل “عتيق” من المسيّرات الحربية. وبالتالي، يجب أن يحسم العدوّ جوابه حول كيفية توفير القدرة على مواجهة أشكال جديدة من القصف التي قد تضطرّ المقاومة إلى استخدامها في حالة الحرب الواسعة. ونتحدث هنا عن نوعية مختلفة من الصواريخ العادية أو الباليستية أو الموجّهة، وعن أجيال جديدة من المسيّرات المسلّحة القادرة على تنفيذ عدة مهام في وقت واحد. أضف إلى ذلك أن جيش الاحتلال تعرّف، ولو جزئيًا، على بعض قدرات منظومة الدفاع الجوي لدى المقاومة. وبمعزل عما إذا كان قد بات يعرف نوعية الصواريخ المستخدمة في إسقاط مسيّراته الكبيرة، والتي يجري تعريفها عسكريًا بأنها طائرة حربية مقاتلة غير مأهولة، فإنه لا يملك جوابًا شافيًا عمّا يمكن أن تملكه المقاومة من أسلحة أكثر فعالية في مواجهة كلّ أنواع الطائرات “الإسرائيلية”، ولا سيما الحربية منها.
يبقى العمل البري. وفي هذا الجانب، ثمّة أساطير سبق لحزب الله أن حطّمها، وأجهزت عليها المقاومة في غزّة. واستعدادات المقاومة لمواجهة برية هي أكبر بكثير ممّا يتوقّع كثيرون، وربّما سيجد العدوّ نفسه أنه أمام جيل جديد من المقاتلين الذين يعيشون هذه الأيام ساعات “ملل” طويلة نتيجة عدم حاجة الحرب إلى قدراتهم. أما المفاجآت التي أعدّتها المقاومة، فهي حقيقية، وربما تكون أكبر بكثير ممّا يتخيل العدوّ وكلّ الحاقدين.
عمليًا، ليس هناك من سبب لجنون إسرائيلي، سوى تكرار حماقات قادته في غزّة. ومتى قرّر العدوّ الحرب، فهذا يعني أنه سيرفع الصوت منذ الساعات الأولى طالبًا حضور الجيش الأميركي بكلّ قوته إلى منطقتنا، ولهذا الجيش، إن حضر، “عدّة شغل” باتت جاهزة للاستخدام متى لزم الأمر!