بايدن ورصيفه البحري المشبوه
في خطابه السنوي عن “حالة الاتحاد”، والذي ألقاه منذ أيام أمام جلسة مشتركة للكونغرس بمجلسيه، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنه أصدر أوامره للجيش الأميركي بالشروع على الفور في إنشاء “رصيف بحري على ساحل غزة قابل لاستقبال شحنات كبيرة محمّلة بالغذاء والماء والدواء والملاجئ المؤقتة”، ما أثار جدلاً واسع النطاق.
ففي تناولهم لمغزى هذه المبادرة الأميركية الجديدة ودوافعها وأهدافها، انقسم المراقبون إلى فريقين. الفريق الأول ينطلق من افتراض توافر حسن النية، ويرى أن الهدف من هذه الخطوة هو “غسل سمعة” إدارة بايدن بعد أن ذهبت بعيداً في تأييدها للحرب الإجرامية التي تشنها “إسرائيل” حالياً على قطاع غزة، وبالتالي فهي مكرسة للإيحاء بأن إدارة بايدن لا توافق على عمليات الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” ضد سكان هذا القطاع، وتسعى جاهدة للتخفيف من حدة المعاناة الإنسانية التي يكابدونها.
أما الفريق الثاني فينطلق من فرضية أن إدارة بايدن متورطة وشريكة في هذه الحرب القذرة، ومن ثم يستحيل عليها القيام بأي مبادرة من شأنها عرقلة الخطط والأهداف التي تسعى “إسرائيل” لتحقيقها، خاصة ما يتعلق منها بالقضاء التام على حركة حماس، حتى ولو أدت العمليات التي يقوم بها “الجيش” الإسرائيلي إلى إبادة كل السكان المدنيين في القطاع، ومن ثم يرى أن لمبادرة الرصيف البحري الأميركي في غزة أهدافاً خفية يجب الكشف عنها والبحث عن أسبابها ودوافعها الحقيقية.
والواقع أنه يصعب فصل هذه المبادرة عن السياسة العامة التي انتهجتها إدارة بايدن منذ اللحظة الأولى لوقوع “طوفان الأقصى”.
فقد تبنّت هذه الإدارة على الفور سردية إسرائيلية تدّعي أن “إسرائيل” تعرضت لهجوم إرهابي ارتكبت خلاله حماس مذابح بشعة ضد المدنيين، وقامت بقطع رؤوس عشرات الأطفال واغتصاب مئات النساء.
ورغم ثبوت كذب هذه الرواية المختلقة، ما تزال إدارة بايدن تتبنّاها رسمياً. ففي خطاب “حالة الاتحاد” قال بايدن بالنص: ” لقد بدأت الأزمة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول بمجزرة ارتكبتها حركة “حماس” الإرهابية، حيث تم قتل 1200 بريء، وذبح النساء والفتيات والرجال والفتيان بعد تعرضهم للعنف الجنسي في أكثر الأيام دموية بالنسبة إلى الشعب اليهودي منذ المحرقة”.
ومن المعروف أن إدارة بايدن لم تكتف بالترويج لهذه الرواية المختلقة إعلامياً، وإنما قامت بتأييد ومساندة كل الخطط التي انتهجتها “إسرائيل” للرد على هجوم حماس.
فقد هرول كل رموز إدارة بايدن الكبار لزيارة “إسرائيل”، بمن فيهم بايدن نفسه ووزراء الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي ورؤساء الأجهزة الأمنية، وشارك كل منهم في واحد أو أكثر من اجتماعات “مجلس الحرب” الإسرائيلي، في سابقة لا مثيل لها في تاريخ العلاقات الدولية، وتقرر فتح مخازن السلاح الأميركي على الفور كي تغرف منها “إسرائيل” ما تشاء من كل أنواع الأسلحة والذخيرة التي طلبتها.
وقد كشفت بعض المصادر الإعلامية أن إدارة بايدن التفت على القواعد التي تتطلب موافقة الكونغرس على مبيعات الأسلحة وقامت بتقسيم الشحنات العسكرية التي سلمتها إلى “إسرائيل”، والتي زادت عن مئة شحنة، إلى كميات لا تصل قيمة كل منها إلى الحدود التي تستوجب إخطار الكونغرس.
ولم تكتف إدارة بايدن بتقديم السلاح الذي استخدمته “إسرائيل” في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على قطاع غزة منذ أكثر من خمسة أشهر، ولكنها تكفلت بتقديم غطاء سياسي شامل لحماية “إسرائيل” والحيلولة دون فرض عقوبات عليها، مهما بلغ حجم انتهاكاتها الصارخة لكل المعاهدات والمواثيق والأعراف الدولية.
فقد استخدمت الفيتو ثلاث مرات لمنع صدور قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، ودافعت عن “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية في محاولة من جانبها لنفي التهمة الموجهة إليها بارتكاب أعمال إبادة جماعية.
فكيف يمكن في ظل كل هذه المعطيات أن نصدق أن إدارة بايدن، والتي قدمت لـ”إسرائيل” كل ما احتاجته من أدوات لتمكينها من قتل وجرح أكثر من مئة ألف فلسطيني في قطاع غزة وتشريد وتجويع أكثر من مليوني شخص آخرين، أن تقدم على مبادرة تستهدف حقاً إنقاذ الفلسطينيين وتقديم معونات إغاثية لهم؟
تدرك إدارة بايدن أن الطريق الأكثر فاعلية لتخفيف المعاناة الإنسانية عن الفلسطينيين الذين يتعرضون لإبادة جماعية في قطاع غزة هو وقف إطلاق النار وفتح المعابر البرية، خاصة معبر رفح الذي تتكدس أمامه مئات الشاحنات المحمّلة بالغذاء والدواء ومستلزمات الإيواء المؤقت، كما تدرك أن أي طريق آخر غير هذا الطريق محكوم عليه بالفشل.
فهي تعلم يقيناً أن البعض حاول تقديم معونات من خلال عمليات “إسقاط جوي”، ثم تبيّن أن هذه الوسيلة لا تكفي للوفاء بقطرة واحدة من محيط الاحتياجات الهائلة لملايين السكان المشردين الذين يتضورون جوعاً وعطشاً وتنتشر فيهم كل أنواع الأمراض الفتاكة، فحمولة الشاحنة الواحدة تعادل أربعة أضعاف حمولة الطائرة وتكلفتها أعلى بكثير.
وهي تعلم أيضاً أن معظم المساعدات التي ألقيت عبر الطائرات سقطت إما في البحر أو على رؤوس البشر المتدافعين نحوها فقتلتهم، وبالتالي سرعان ما تبيّن أن تقديم المعونة من خلال عمليات إسقاط جوي هو عمل يغلب عليه الطابع الدعائي أو المسرحي، وبالتالي يصب في النهاية لصالح المخططات الإسرائيلية التي تستهدف كسب الوقت واستخدام المعونات كأداة للابتزاز.
مبادرة “الرصيف البحري” التي تعتزم إدارة بايدن القيام بها لا تختلف كثيراً من حيث فاعليتها وقدرتها على الوفاء باحتياجات سكان القطاع، لكنها تبدو أكثر خطورة في الوقت نفسه.
صحيح أنه ليس من الواضح حتى الآن ما إذا كانت هذه المبادرة قد طرحت بعد تنسيق مسبق مع “إسرائيل”، أم أن إدارة بايدن تستخدمها كوسيلة للضغط على “إسرائيل” بعد تصاعد خلافاتها مع نتنياهو.
وتشير دلائل عديدة إلى أنه ليس من المستبعد أن تكون هذه المبادرة قد تمت بتنسيق مسبق مع “إسرائيل” وبمباركتها، بدليل عدم اعتراض الأخيرة عليها، بل وترحيب بعض المسؤولين الإسرائيليين بها.
ولو كانت إدارة بايدن ترغب حقاً في الضغط على “إسرائيل”، وقادرة على ممارسة هذا الضغط، لكان الأولى بها أن تضغط عليها لفتح المعابر البرية، الأقل كلفة والأكثر فاعلية، وبالتالي فمن الواضح أن الوجود العسكري الأميركي بالقرب من شواطئ غزة يشعر “إسرائيل” بالراحة والطمأنينة في جميع الأحوال، حتى ولو كان هدفه الظاهر إنسانياً، ولأن بناء رصيف بحري أميركي على شاطئ غزة سوف يستغرق شهرين، فسوف يتيح ذلك مهلة زمنية تحتاجها “إسرائيل” لتخفيف الضغوط العالمية الواقعة عليها بسبب الأزمة الإنسانية، ولتكثيف عملياتها العسكرية ضد حماس، وربما يساعدها على انتهاز الفرصة لاجتياح منطقة رفح المكتظة بالسكان برياً.
وبالطبع، لن تبالي “إسرائيل” إذا ما حاولت الإدارة الأميركية التظاهر إعلامياً باعتراضها على هذه الخطوة. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن إدارة بايدن لن تعتمد على شبكة “الأونروا” لتوزيع هذه المعونات، وبالتالي ستبحث عن موزعين مناهضين لسلطة حماس في القطاع، فسوف يتبين لنا أنه يصعب فصل هذه المبادرة عن الخطط الإسرائيلية المتعلقة بمرحلة ما بعد حماس”.
على صعيد آخر، يرى البعض أن لهذه المبادرة، إلى جانب أهدافها الآنية أو العاجلة، أهدافاً أخرى استراتيجية أو بعيدة المدى، ترتبط بمشروعات اقتصادية واستراتيجية كبرى في المنطقة، مثل مشروع استغلال الغاز المتوافر بكثرة في المياه الإقليمية المتاخمة لقطاع غزة، ومشروع قناة بن غوريون، ومشروع الممر الهندي المناوئ لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وغير ذلك من المشروعات التي تعكس احتدام الصراع الدولي على منطقة شرق البحر المتوسط ككل.
في ضوء ما تقدم، يصعب تصديق احتمال أن تكون إدارة بايدن معنية حقاً بتخفيف حدة المعاناة الإنسانية عن الفلسطينيين في قطاع غزة بينما هي شريك أساسي في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل” على هذا القطاع.
صحيح أن سياسات بايدن تجاه الحرب في غزة تواجه بانتقادات متزايدة من جانب التيار اليساري في الحزب الديمقراطي، وأيضاً من جانب الناخبين الشباب في المجتمع الأميركي نفسه، خاصة في أوساط الأقليات، وصحيح أيضاً أن بايدن يدرك أنه معرض في الوقت نفسه لخسارة أصوات كل الأميركيين العرب والمسلمين، وهو ما لمسه بنفسه خلال الانتخابات التمهيدية في ولايتي ميتشغان وبنسلفانيا، غير أن بايدن ليس من النوع الذي يسهل تغيير قناعاته السياسية والفكرية.
ويكفي أن نتذكر هنا أنه يفخر بتعريف نفسه بأنه “صهيوني”، وهو القائل بأنه “ليس من الضروري أن يكون الإنسان يهودياً ليصبح صهيونياً”، وهو القائل أيضاً “لو لم تكن إسرائيل موجودة لتعيّن علينا اختراعها”.
فإذا أضفنا إلى ما سبق أنه محاط بمجموعة من المستشارين والمساعدين اليهود الذين لا يقلون عنه “صهيونية” وحرصاً على تقديم كل دعم ممكن لـ”إسرائيل”، فسوف يكون من الصعب تخيل أن تكون مبادرته الأخيرة قد صممت لمساعدة الفلسطينيين.
لا شك أن بايدن يمقت نتنياهو لأسباب كثيرة معروفة، ويعتقد في الوقت نفسه أن العناصر المتطرفة في حكومة “إسرائيل” الحالية، من أمثال بن غفير وسموتريتش، تتبنى مواقف وسياسات من شأنها أن تلحق ضرراً شديداً بـ”إسرائيل” نفسها، لكنه سيظل حريصاً كل الحرص على أن يعمل من أجل تحقيق المصالح الإسرائيلية العليا، وبالتالي فلا شك أنه يعتقد أن مبادرة الرصيف البحري قد تنجح في تخفيف الضغوط التي يواجهها داخل الحزب الديمقراطي، لكنه على ثقة تامة من أنها تصب في النهاية في مصلحة “إسرائيل” التي لا يمكنه التفريط فيها.
المصدر: الميادين