إذا كنت تصمت الآن، فمتى تنطق؟
السؤال موجه إلى كل واحد منا، وليس إلى واحد محدد بعينه، ومنا أعني: من الحركة الثقافية والأدبية والفنية الفلسطينية حيثما كان يعيش، داخل الوطن تحت الاحتلال، أو خارج الوطن، فلسطين، في مكان قريب أو بعيد.
حتى كتابة هذه الكلمات، يكون قد مر على عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 أكثر من 120 يوماً، وهي ليست أياماً عادية، ومتى كانت الأيام، أيامنا، نحن الفلسطينيين، عادية كأيام بني البشر؟
أنا من جيل النكبة، وعمري أكبر من عمرها، فقد مرت عليها 75 سنة، فيما عمري 81 سنة وبضعة أشهر، وهذا يعني أنني عانيت منذ البداية أنا وأبناء وبنات جيلي، وصرنا آباء وأجداداً، وأمهات وجدات، وها نحن نعيش هذه الأيام الجحيمية، سواء كنا نعيش في قطاع غزة أو الضفة الفلسطينية، وهذه التسمية كي نميز ما بقي عربياً فلسطينياً بعد احتلال 1948، أو في ما أطلق عليه: الشتات، وهو في بلاد العرب، أو بعيد عن بلاد العرب.
الصمت فاضح وفادح، فاضح للصامتين، وفادح لهم لأنهم متهمون بهذا الصمت، ولا براءة للساكت لأنه شيطان أخرس، وإذا كان غير مغفور لأي كاتب ومثقف وفنان عربي صمته، فكيف يكون مغفوراً هذا الصمت للفلسطيني، مهما حاول التملص من المسؤولية والهرب ببراعة القول التبريري الذي لا يقنع حتى صاحبه، فما بالك بالشعب المقاوم الذي ينتمي إليه؟
يدعي بعض من يُطرح عليهم السؤال بأنهم ليسوا مع “حماس” وعقائديتها، وهم يرون في هذا حجة تبرر لهم صمتهم، وهم لاذوا بالصمت عندما كانت حركة “الجهاد الإسلامي” تخوض المعارك وحدها، وتتلقى الطعنات في الظهر وحدها، وليس من العدو، ولكن ممن يخدمونه، فهل كانوا يختلفون مع عقائدية “الجهاد الإسلامي” بسكوتهم؟ وفي أي المواقع كانوا يتموضعون: أهم قوميون، ماركسيون، أم هم لا أدريون وخارج أي تصنيف، يعني عدميين؟
مفاجأة “حماس” ممثلة بــ “طوفان الأقصى” ربما كانت تبرر التريث في الحكم على الحدث التاريخي المفصلي في الأيام الأولى، ولكن بعد كل هذا الوقت من المعركة، وقد مضت أيام وأسابيع وأشهر في أطول حرب يخوضها شعب فلسطين، فإنها تبهر العالم، وتحدث تحولاً في الوعي، في شعوب العالم، بما في ذلك شعب الولايات المتحدة، وتفتضح وحشية الكيان الصهيوني، جيشاً وأحزاباً ومؤسسات يجمعها ويوحدها الحقد على شعب فلسطين والتنكيل فيه والتدمير الوحشي غير المسبوق في أي حرب وقعت من قبل في تاريخ البشرية المعاصر.. أهناك مبررات؟
لقد رأينا الشعب الأميركي وهو يسير التظاهرات الحاشدة احتجاجاً على جرائم الجيش الأميركي في فيتنام، ورأينا انحياز العرب والمسلمين وشعوب العالم ضد الحرب الوحشية الفرنسية والتنكيل بالشعب الجزائري، وعشنا انتفاضة العالم وانحياز الشعوب في كل القارات لشعب جنوب أفريقيا وزعيم كفاحه البطل نيلسون مانديلا، الذي صرح عندما خرج مرفوع الرأس من السجن: استقلال جنوب أفريقيا ناقص ما دام شعب فلسطين لم ينل حريته. لذا، لا مفاجأة بأن دولة جنوب أفريقيا اختارت أن تحاكم الكيان الصهيوني نيابة عن البشرية أمام محكمة العدل الدولية، وتتحدى واشنطن وكل دول الاستعمار بصلابتها وثباتها على المحاكمة، وتفضح تخاذل دول عربية لاذت بالصمت الذليل المُتربص.
أحرجت دولة جنوب أفريقيا الدول العربية والإسلامية التي اجتمعت في الرياض، ثم صمتت صمت القبور، فالمعركة استمرت، وهذا ما أصابها بالخرس، لأنها لم تتوقع أن تمتد بطولة قطاع غزة و”طوفان الأقصى” المُعجزة في مواجهة الكيان الصهيوني، بل وأبعد من ذلك، فضحت بطولات قطاع غزة أكذوبة الجيش الذي لا يقهر، فقد قُهر لأنه ووجه بمحاربين بواسل أشداء يؤمنون بحقهم في وطنهم، ويفخرون بتاريخ شعبهم الذي بدأت ثوراته بعد احتلال بريطانيا لفلسطين إثر هزيمة تركيا العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والتي امتدت مع الكيان الصهيوني عندما رحل الاحتلال الانتدابي البريطاني بشكل نهائي، أي بعدما أدت بريطانيا دورها التآمري المخزي في تأسيس الكيان الصهيوني الذي انتقل من الحضن البريطاني إلى الحضن الأميركي.. وما زال.
أما شاهدتم كيف أخذ الرئيس الأميركي بايدن يربت ظهر نتنياهو بعدما طار بلمح البرق قلقاً إلى الكيان الصهيوني، وكأنه يقول له: “شد حيلك.. أميركا في ظهركم.. وهي من يحتضنكم لأنكم مشروعنا وقاعدتنا في الشرق الأوسط، ولن نسمح لقطاع غزة وشعب فلسطين بجزء من قوته أن يواجه القوة الأميركية التي لن تترككم وحدكم!”.
أين هي أصوات الكتاب؟ أين هو دوركم؟ وأين هم المثقفون الثوريون المنحازون لهذا الحدث البطولي الذي بدأ يلهم شعوب العالم، ويوقظها من غفلتها، ومن التضليل الأميركي والتدليس الصهيوني والكذب الذي ابتز وضلل؟
أصوات قليلة محدودة تكتب بانحياز والتزام وانتماء من دون حسابات صغيرة تُحركها أطماع الربح والخسارة الفردية الأنانية الضيقة، وتصب في جوهرها في خدمة حكام التبعية العرب الذين ينتظرون نهاية المعركة التي تؤرقهم نتائجها، وخشيتهم من غضب الشعوب العربية عليهم وهي ترى وتلمس تخاذلهم، وكم أن تقاعسهم وخذلانهم لغزة وفلسطين وفجورهم وتآمرهم عليها، فهم لم يقدموا جرعة ماء للفلسطينيين في قطاع غزة، وحبة دواء لتسكين أوجاع أطفالهم، وعلبة حليب لأطفالهم.. أهؤلاء عرب؟ أهولاء مسلمون؟ أهؤلاء بشر؟
أين أنتم أيها الكتاب، والشعراء، والمفكرون (التقدميون) والمنظرون، والصحافيون المحللون؟
لن تربحوا من صمتكم، فكل الجوائز والمردود المالي من دول النفط والغاز لا تساوي دمعة طفل فلسطيني يتم إنقاذه من تحت الدمار، أو فتى يرسم بأصابعه المدماة المغلفة بطبقة من نثار البناء الذي وارى أهله إشارة النصر.. وهو يصرخ: “نحن غزة، نحن أبطال، نحن سننتصر”. ألم تروا ذلك الفتى المغطى بنثار الدمار وهو يصرخ في وجه العدو ويوجه صراخه للعالم ليسمع ويرى؟
شعبكم يراكم، ويعرفكم، فلا تتوهموا بأنه مشغول بتضميد جراحه، فهو يرسم في ذاكرته اليقظة وجوه كل من خذلوه ويخذلونه، ويواصل قصف الميركافات بالياسين 105.. ويواصل قنص جنود الاحتلال التائهين بين خرائب مدن ومخيمات القطاع المحارب البطل.. حيث بطولات القسام، وسرايا القدس، وأبو علي مصطفى، وكتائب الأقصى، والناصر صلاح الدين. شعبنا يعرف من ينتمي إلى بطولاته وكبريائه ومقاومته.
أيها الكاتب الفلسطيني، أيها المثقف، أيها الفنان، أيها الصحافي، أيها الشاعر.. يا صاحب الكلمة: إذا كنت تصمت الآن، فمتى ستنطق بالكلمة الشجاعة؟ كلمة الانتماء إلى شعبك ووطنك، فمتى سترفع صوتك مطالباً شقيقك العربي بقول الكلمة الشجاعة؟ أأنت حاكم عربي يا رجل مرتهن بمصالحك؟
عيون عبد الرحيم محمود، ونوح إبراهيم، وغسان كنفاني، وحنا مقبل، وناجي العلي، وماجد أبو شرار، ووائل زعيتر، وعلي فودة، وعيون كل شهداء الثقافة الفلسطينية تتابعنا… ولا مغفرة، ولا مبرر لأحد في التقاعس.. وشعبنا يقدر لكل فنان، كاتب، مبدع.. بالكلمة، بالصورة، بالنشيد.. فعله، ويفخر بالمراسلين والمراسلات الذين ينقلون بالكلمات وبعيون الكاميرات كل جرائم العدو.. ويتساقطون شهداء ويواصلون.
يا ويل من يتقاعس! ويا لعاره! ففي هذا الطوفان يُكرم كل فلسطيني.. عربي.. إنسان أو يُهان.
المصدر : الميادين