سخط شعبي أوروبي ضد “إسرائيل”.. كيف شكّلت حرب غزة فهماً جمعياً لقضية فلسطين؟
مع بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، وعلى الرغم من المواقف السياسية الرسمية لغالبية دول الاتحاد الأوروبي الداعم لما يقولون إنه حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، بدا جلياً التغيّر في الرأي العام الأوروبي. إذ يعود ذلك برأي مراقبين إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي أسست للتفاعلية، وسمحت بتدفق المعلومات، وألغت التقييدات التي تظهر في الإعلام التقليدي المبني على سياسات موجّهة.
رغم القمع.. دعم شعبي متنامٍ
الدعم الشعبي المتنامي للقضية الفلسطينية ظهر من خلال تنظيم التظاهرات الشعبية التي عمّت مختلف مدن القارة الأوروبيّة، وكان أبرزها في شوارع لندن وباريس وبرلين. واللافت في هذه التظاهرات ضمّها جنسيات متعددة من جاليات ومواطنين أصليين، واستمرارها على الرغم من القمع الحكومي.
ففي العاصمة الفرنسية باريس، تظاهر الآلاف للتنديد بجرائم “إسرائيل”، وللمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، فيما كان لافتاً الحضور السياسي اليساري بين أحزاب ونقابات وجمعيات، على رأسهم رئيس حزب “فرنسا الأبية” جان لوك ميلانشون والنائبة ماتيلد بانو. تعالت الأصوات ضد التواطؤ الحكومي، وندّدت بالإبادة الجماعية التي تشنّها “إسرائيل” على القطاع الفلسطيني المحاصر. فقد تخطى عدد الضحايا الـ22 ألفاً بينهم أكثر من 9 آلاف طفل.
كان للميادين نت لقاء مع يانيك، وهو عضو في تجمّع LGA 38، يؤمن الأخير بفلسطين حرة من البحر إلى النهر. تأسس هذا التجمع منذ عامين، ويهدف إلى تحرير جورج عبد الله (أسير لبناني لدى السلطات الفرنسية). تحدث يانيك عن إسهاماتهم في دعم القضية الفلسطينية، إذ قاموا إلى جانب جمعيات أخرى، بالتنظيم والمشاركة في جميع التظاهرات في مدينة غرونوبل ضد همجية الاحتلال الإسرائيلي وضد الإبادة الجماعية. وعملوا أيضاً على حملات توعية ومقاطعة وجمع الأموال لدعم غزة.
وعن اختلاف الرأي العام الفرنسي، أوضح يانيك، أن المواطنين الفرنسيين المتضامنین مع فلسطين بمعظمهم لديهم دوافع تاريخية، “فهم يشملون المهاجرين الذين عايشوا الاحتلال الفرنسي. وهناك جزء لا مبالٍ وجزء آخر من اليمين أو اليمين المتطرف، يظهر لا إنسانية وعداءً للفلسطينيين ويتميز بعنصريته”.
أما هیلین (62 سنة- مهندسة متقاعدة) التي شاركت في جميع تظاهرات مدينة ليون الفرنسية، فتقول للميادين نت: “أنا ناشطة من أجل السلام، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني على يد الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1948 هو كارثة”. تؤكد هيلين أنها مخلصة لقيمها العالمية كمواطنة فرنسية، فـ”كل إنسان له الحق في الحياة الحرة والكريمة”. لكنها في الوقت نفسه، تتحسّس هذه المأساة عن قرب، كحفيدة للاجئين أرمن وضحايا للإبادة الجماعية التي ارتكبتها الحكومة التركية في عام 1915.
المحامي اللبناني الفرنسي مازن فقيه، المختصّ في قضايا الأحوال الشخصية وحقوق المهاجرين،أكد هذه التصريحات، واصفاً الاحتجاجات بأنها شملت المهاجرين الجزائريين بشكل خاص، ورأى أنها كانت فرصة لهم لتنفيس هذا الاحتقان التاريخي أيضاً. “وقد رأينا بالفعل الشعارات المندّدة بالتواطؤ الحكومي بوصفها شريكة بالدم”. وأضاف أن “قبل 1962، كان المواطن الجزائري يعدّ مواطناً فرنسياً أيضاً، وكانت فرنسا بذلك تقتل مواطنيها. وتعدّ فرنسا من دول القرار الخمس الكبرى في مجلس الأمن، وتتدخل بشكل كبير في السياسات الخارجية، إلى جانب وجود قواتها في دول مختلفة، وكل ذلك يثير ردود فعل طبيعية”.
في ألمانيا لم تختلف الحال كثيراً عن فرنسا، حسب ما أكد الناشط الفلسطيني في مدينة هامبورغ محمد كنعان (اسم مستعار) للميادين نت، الذي تحدث عن صعوبة الحصول على تصريح من الحكومة للقيام بتظاهرة. ويقول كنعان: “من الممكن أن تحصل على التصريح قبل التظاهرة بساعتين ما يؤثر بالتالي في عدد المتظاهرين”، مشيراً إلى أنّ “الخوف منع الكثير من الحضور، فأنت كأجنبي إقامتك مهددة، ومن الممكن أن تحاكم أو تغرّم أيضاً”.
أما دعاء (22 عاماً) وهي طالبة مغربية في كلية الطب، وشاركت في عدة تظاهرات في مدينة هامبورغ في ألمانيا، فأبدت استياءها من تعامل السلطات الألمانية مع المتظاهرين قائلة: “بدأنا مع سيدة ألمانية بسلسلة تظاهرات تحت عنوان الدفاع عن حرية التظاهر. كان هناك حذر شديد في انتقاء الشعارات وتفادينا حمل العلم الفلسطيني. وكانت هناك مضايقات من بعض الفاشيين الألمان أيضاً. في المقابل، كانت التظاهرات الداعمة لإسرائيل محمية ومدعومة”.
وفي حديثه عن إسهامات المجتمع الحقوقي في فرنسا، تحدث المحامي مازن فقيه عن الدعوى القضائية التي قُدمت إلى المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، ووقّع عليها ثلاثمئة محامٍ. هذه الدعوى تضمنت شكاوى من الضحايا ضد نتنياهو بتهمة ارتكابه جرائم حرب وإبادة جماعية وتطهير عرقي. “لكن المدّعي العام لم يحرّك الدعوى بعد”. وعن تأثير هذه الدعوى، أضاف فقيه أن “إسرائيل ليست من الدول الموقعة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، ما يصعّب تنفيذ مذكرة توقيف بحق رئيس حكومتها، إلا في حال وجوده على أراضي إحدى الدول الموقّعة التي تستطيع التنصل من الضغط الأميركي. ومن المستبعد أن يحصل ذلك في فرنسا مثلاً بوصفها خاضعة لهذا الضغط”.
“معاداة السامية”.. تهمة المتعاطفين مع الفلسطينيين
عملت “إسرائيل” ومعها البلدان الغربية على “بلورة” تعريف جديد لمفهوم “معاداة السامية”، وتمكنوا من استعماله كسلاح لطمس أي صوت يندّد بالصهيونية وينتقد أفعال “إسرائيل”. فبحسب التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة IHRA، إن “المقارنة بين السياسات الإسرائيلية والنظام النازي.. أو القول إن وجود دولة إسرائيل هو مسعى عنصري…”، يدخل تحت تعريف معاداة السامية. ونرى بوضوح أن المفوضية الأوروبية تنطلق من هذا التعريف لقمع أي انتقاد لـ”إسرائيل” في أوروبا. وهذا ما شهده المتظاهرون في ألمانيا بشكل خاص، بحسب محمد كنعان، الذي يقول للميادين نت: “لا تفريق في ألمانيا بين اليهود والصهاينة، وتدين الدولة لهم بالحماية والمساعدة اللامحدودة. وإلا ستكون إرهابياً ومعادياً للسامية”.
وقد فرضت ولاية ساكسونيا مؤخراً، على المتقدمين للجنسية شرط إعلان دعمهم حق “إسرائيل” في الوجود. وذلك ضمن أعمال “العدالة الانتقالية” الناتجة من الهولوكوست النازي. وهذا ما أكدته الطالبة دعاء واصفةً التشديد الأمني أثناء تظاهرات هامبرغ: “لم أرَ في حياتي عدداً مماثلاً من الشرطة، حاصروا الناشطين اليساريين لشل حركتهم. ولبس المتظاهرون الألمان القلة لُثُماً لإخفاء وجوههم خوفاً من الشرطة”. وقالت إن بعض الطلبة تم ترحيلهم على خلفية منشورات داعمة لفلسطين، وتم فصل العديد من الأطباء السوريين بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي بتهمة معاداة السامية.
أما في فرنسا، فقد كان المشهد أقلّ قسوة، حسب ما ترى الناشطة الفرنسية هيلين، التي تؤكد أن “الوجود الأمني كان عادياً كما في جميع التظاهرات، بل خفيفاً نسبياً مقارنة بالاحتجاجات المتعلقة بالمعاشات التقاعدية”. ويقول يانيك: “في البداية، صدر قرار من وزارة الداخلية يمنع جميع التظاهرات التي تدعم فلسطين إلى أن تغير المشهد”. ويضيف أنه “تم إلغاء مؤتمرين لنا في غرونوبل ولا يزال يواجهنا الكثير من القمع. ومع ذلك، بإمكاننا النضال على رغم الظروف الصعبة، واستطعنا تنظيم التظاهرات في أغلب المدن الفرنسية”.
وقد أرجع المحامي مازن فقيه ذلك القمع إلى ضغط اللوبي اليهودي، مؤكداً أنه حاول في فرنسا تجريم انتقاد سياسة “إسرائيل” ومقاطعتها اقتصادياً، قبل صدور قرار محكمة التمييز. وعدّ فقيه ذلك منافياً لمنطق مفهوم معاداة السامية نفسه، “فهو يُعرّف بأنه كراهية لليهود بسبب يهوديتهم، بينما مجلس النواب الإسرائيلي مثلاً يتكوّن أيضاً من مسلمين ومسيحيين”. فبذلك يكون تذرّعاً بالهولوكوست لحماية الصهيونية.
وسائل التواصل الاجتماعي وتكذيب الرواية الإسرائيلية
سياسة التضليل التي كانت تتّبعها وسائل الإعلام الغربية، سقطت بسقوط التقييدات على المنصات الاجتماعية. خاصة بعدما كرّس الكثير من الناشطين العرب والأجانب منصاتهم للنشر حول الجرائم التي ترتكبها آلة الحرب الإسرائيلية وعن ترويجها لأكاذيب من دون دلائل. فقد انتشرت تقارير في الإعلام الإسرائيلي وتبناها الرئيس الأميركي جو بايدن، تدّعي قيام حماس باغتصاب النساء وقطع رؤوس أطفال إسرائيليين.
وتأثّر الرأي العام الفرنسي بدايةً بذلك نتيجة القوة الدعائية في وسائل الإعلام الفرنسية كما قال يانيك، و”كان هناك تعاطف مع الضحايا المدنيين الإسرائيليين. لكن الأمر تغير بعد رؤية صور القصف والمجازر الإسرائيلية”. تقول هيلين: “لم نحتمل الصور المروعة لآلاف الأطفال الذين قتلوا في غزة”، وأضافت أن يوم الميلاد هو عيدٌ للطفولة أيضاً، “فكيف يمكن أن لا نفكر بأطفال غزة فيه؟”.
وعن سبب تحوّل التوجه في وسائل الإعلام الفرنسية، أكد فقيه أن “الإعلام الفرنسي لا يعكس مجتمعاً، بل يعكس سياسة فرنسية تعمل وفقاً لمصالحها الانتخابية وقوتها السياسية. فهو تحت سيطرة لوبي أيضاً”. وأشار إلى أن الإعلام يستجيب للضغوط الشعبية لتجنّب التصادم مع مختلف الأطراف، “من أجل تحقيق أهداف انتخابية وخشية من ردود فعل إرهابية، بالإضافة إلى أنّ الاقتصاد الفرنسي يعتمد بشكل كبير على المجتمع المناوئ لإسرائيل”.
وأكد الناشط يانيك أن جهودهم أثمرت على المستوى الحكومي، “فبعد صدور قرار من وزارة الداخلية يمنع جميع التظاهرات التي تدعم فلسطين، توقف ماكرون عن دعمه اللامشروط لإسرائيل ودعا إلى وقف إطلاق النار”. وقد صدر قرار عن محكمة التمييز الفرنسية، في تاريخ 17/10/2023 ينص على أن “الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل أو شركاتها لا تعدّ معاداة للسامية أو تحريضاً على العنف أو الكراهيّة كما جاء في ادّعاء سابق، بل هي ممارسة لحرية التعبير”.
وفي تفسيره للموقف الحكومي، أكد الفقيه أن رفع العلم الفلسطيني في وسط باريس وظهور سياسيين من اليسار في التظاهرات، دفعا الحكومة إلى تغيير تصريحاتها خوفاً على أمنها. وأوضح أن “فرنسا ملتزمة بمبادئ الجمهورية ومعاهدة حقوق الإنسان الأوروبية، ولديها التزامات واضحة تجاه المواثيق الدولية، بالإضافة إلى مبادئها الدستورية”. وفي رأيه، فإنهم مضطرون لمراعاة الشعب وتوجهاته، ولا أحد يملك سلطة مطلقة في هذا الصدد.
ومن الجهة الألمانية، أكد كنعان أن الوحشية الإسرائيلية غيّرت وعي المواطنين الألمان تجاه القضية الفلسطينية بعدما كانوا متأثرين بسرديات وسائل الإعلام الألمانية التي تؤيد “إسرائيل”. أما دعاء فتقول واصفة تغيّر النظرة الشعبية: “أصبحنا نرى الكوفية في الشارع والسوبرماركت، ولا يخلو الأمر من بعض النظرات الغاضبة”.
المصدر : الميادين