غزة.. قتال فوق الأرض وآخر تحتها (2/2)
في غزة تمكن المدافعون عنه من الاستفادة منها، فقامت حركات المقاومة المسلحة بإعداد مسرح عملياتها الخاصة والفريدة في نوعها، وهي شبكة من الأنفاق المعقدة والمركبة التي قدرها البعض بأكثر من 500 كيلومتر طولاً وعرضاً.
عرفت الصراعات المسلحة بين الدول والشعوب أشكالاً متنوعة من أنماط القتال والحرب، يقوم بعضها على الخنادق وخطوط القتال الواضحة والمتقابلة أو حروب الحركة السريعة والالتفاف أو الاختراق والتطويق، كما شهدت الصراعات المسلحة بين الحكومات والمجموعات الثورية المسلحة أو المجموعات المتمردة أشكالاً أخرى، بعضها في الغابات والأدغال، وبعضها الآخر على الجبال والمرتفعات.
ونحن اليوم في غزة نشهد نوعاً جديداً وفريداً في إدارة الصراع المسلح بين قوى الدولة المحتلة الغازية المدعومة غربياً بصورة غير مسبوقة وغير معهودة وجماعات مسلحة أعدت مسرح عملياتها تحت الأرض وفوق الأرض في نمط من القتال والحرب لم تعرفه الحروب الحديثة من قبل، كما لم يعرفه العدو الصهيوني في تاريخه.
منذ أن بدأت جولة الحرب الجديدة هذه بين الكيان الصهيوني ومجموعات المقاومة المسلحة في غزة يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي بعد تنفيذها ذلك الهجوم المفاجئ على ما يعرف بمستوطنات غلاف غزة -أراضٍ محتلة من حدود غزة وفقاً لاتفاقية الهدنة عام 1949 بين مصر والكيان الإسرائيلي المغتصب- وما ترتب عليها من كسر هيبة الجيش الإسرائيلي وتهديده في عمق وجوهر وجوده، ونحن نشهد نمطاً جديداً من الحروب.
كشفت هذه الحرب عن مجموعة من الحقائق الفاضحة
الأولى: الاصطفاف العلني لقوى الاستعمار الغربي مع الكيان الصهيوني بصورة غير مسبوقة. صحيح أن الغرب لطالما ساند “إسرائيل” ودعمها في كل حروبها وعدوانها ضد العرب، سواء كانوا شعوباً أو دولاً وحكومات، بيد أنها المرة الأولى التي يسارع قادتها بلهفة وذعر للحضور إلى الكيان وإعلان تأييده بهذه الصورة الفاضحة، فلم يعد هناك كتلة عربية يُخشى غضبها أو موقفها الجماعي، كما جرى في المرة الأخيرة أثناء حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973.
الثانية: أن العجز الحكومي العربي كشف عن نفسه بصورة غير مسبوقة في تاريخ هذه المنطقة وانزاح الستار، فإذا ببعض الحكومات العربية متواطئ مع الكيان الصهيوني، وبعضها الآخر متآمر ومتعاون معه ضد المقاومة وضد الشعب الفلسطيني، وبعضها الأخير عاجز وغير قادر.
الثالثة: أن الشعوب العربية بقدر رغبتها ودعمها للمقاومة وللشعب الفلسطيني، فإنها تظل محبوسة ومعتقلة في بعض أهم الدول العربية المجاورة لفلسطين وغير المجاورة. وقد جرى في مصر اعتقال المئات من الشباب الذين بادروا إلى الخروج في تظاهرات مساندة ومؤيدة للشعب الفلسطيني البطل ومقاومته الجسورة في غزة يوم الجمعة 20/10/2023، وقدموا لنيابة أمن الدولة في القضايا أرقام 2463 لسنة 2023 و2468 لسنة 2023 بالقاهرة، و2469 لسنة 2023 في الإسكندرية بتهم الانضمام إلى جماعة إرهابية، والاشتراك في تجمهر يهدف إلى الإضرار بالأمن والنظام العام، وتغيير نظام الحكم بالقوة، وإتلاف المال العام والخاص تنفيذاً لغرض إرهابي، واستخدام القوة والعنف ضد موظف عام لحمله على الامتناع عن أداء عمل من أعمال وظيفته لغرض إرهابي، وما زالوا محبوسين حتى يومنا هذا .
الرابعة: كشف السلوك الوحشي والإجرامي للجيش الإسرائيلي (عمليات التدمير وحرب الإبادة ضد سكان غزة، وعمليات هدم المنازل على رؤوس سكانها، وضرب المدارس والمستشفيات وكل أماكن الإيواء، والحصار الكامل والشامل وحظر كل مستلزمات الحياة من الغذاء والماء والوقود والكهرباء والأدوية) عن حقيقة هذا الكيان أمام الرأي العام العالمي في كل بقاع الأرض، فأسقط ما بقيَ له من مشروعية أخلاقية كانت قليلة على أي حال، فخرج ملايين المواطنين في معظم عواصم ومدن العالم تأييداً للشعب الفلسطيني، بما في ذلك مدن وعواصم الدول الاستعمارية الأوروبية والأميركية، ناهيك بشعوب وحكومات دول أميركا اللاتينية.
الخامسة: كشفت حرب الإبادة والتدمير الممنهج لكل مقومات الحياة والسكن في غزة عن حقيقة الخطة الموضوعة منذ سنوات طويلة لتهجير سكانه -يعقبها في مرحلة تالية سكان الضفة الغربية- إلى سيناء وبقية دول الجوار العربية، فلم يعد الحديث عن هذه الخطة مجرد أضغاث أحلام صهيونية بقدر ما أصبح موضوعاً للتنفيذ والحوارات الدبلوماسية بين دول التحالف الاستعماري الغربي -وعلى رأسه الولايات المتحدة- وبعض دول وحكومات الجوار، ومنها مصر التي كان لدورها خلال السنوات العشر الأخيرة تأثير سلبي فيما يجري في غزة في الوقت الراهن، وذلك حينما أزالت وهدمت وهجّرت سكان رفح المصرية (بزعم محاربة الإرهاب)، والتي أدت تاريخياً دور الظهير والمساند والداعم لشعب غزة في جولات صراعاته المسلحة السابقة ضد الكيان الإسرائيلي.
مسرح عمليات فريد
تقوم الجيوش عادة قبل الحروب وأثناءها بتجهيز ما يسمى “مسرح العمليات”، مستفيدة من الطبيعة الطبوغرافية والجغرافية للأرض والبيئة المناخية والتضاريس -من مرتفعات وجبال أو تلال وسهول- أو طبيعة صحراوية أو زراعية…
وفي غزة – التي هي وادٍ ممتد ومنبسط ليس فيه معالم طبوغرافية معقدة- تمكن المدافعون عنه من الاستفادة منها، مثل الجبال أو التلال والمرتفعات، فقامت حركات المقاومة المسلحة (وخصوصاً كتائب القسام وسرايا القدس) بعد الانسحاب الإسرائيلي القهري من غزة في نيسان/أبريل 2005 بإعداد مسرح عملياتها الخاصة والفريدة في نوعها، وهي شبكة من الأنفاق المعقدة والمركبة التي قدرها البعض بأكثر من 500 كيلومتر طولاً وعرضاً.
فكما هو معروف منذ زمن طويل، كانت الجيوش المصرية ترى في غزة سهلاً يصعب الدفاع عنه في حال الغزو والعدوان من الشرق. وهكذا كان الوضع أثناء العدوان الإسرائيلي على مصر عام 1956 وعام 1967، ما سهل على الجيش الإسرائيلي احتلالها.
وهنا جاءت عبقرية العقل العسكري الفلسطيني، فما يصعب الدفاع عنه فوق الأرض قد يسهل الدفاع عنه تحت الأرض.
صحيح أنَّ الجيش الإسرائيلي حاول في كل جولات الصراع السابقة ضد غزة (2008/2009 – 2014- 2018- 2021) ضرب ما ظنه شبكة الأنفاق أو البحث عنها وتدميرها، لكن جهوده تلك لم تفلح، بل على العكس من ذلك، قام المخطط العسكري الفلسطيني بعد كل جولة بزيادة مسافات تلك الأنفاق وتوسيعها وتعميقها لتتحمل كل أنواع القصف الجوي والمدفعي للعدو من ناحية، وحتى توفر ملجأ آمناً للقادة والكوادر والأفراد وغرف العمليات ومخازن الأسلحة والإمدادات ومطابخ إعداد الطعام، ولتكون أيضاً وسيلة للعمل العسكري الهجومي، فيما أطلق عليه بعد ذلك “الأنفاق الهجومية” التي قد تمتد إلى مساحات ومناطق خلف خطوط العدو؛ فقد فرضت الطبيعة الطبوغرافية المنبسطة لقطاع غزة وغياب أي نتوءات من تلال وجبال على المخطط الفلسطيني نمطاً جديداً من القتال ونمطاً فريداً في إعداد مسرح عملياته.
لقد وقف أحد الخونة الفلسطينيين (فيما يسمى بالسلطة الفلسطينية) ليتندر على الأنفاق، ويتهم قادة المقاومة الفلسطينية بأنهم يختبئون في الأنفاق ويتركون شعبهم فوق الأرض ليتلقى القذائف والقنابل، وذهب إلى حد اتهامهم بالاختباء في سيارات الإسعاف، كأنه بذلك يوفر الغطاء السياسي لضربات العدو الوحشية ضد المستشفيات وسيارات الإسعاف، ويطلب من المقاومة وقادتها أن يكونوا لقمة سائغة للعدو الإسرائيلي وآلة حربه الوحشية، فيما يجلس هو في مكتبه الوثير وغرفته المكيفة يقابل فيها وفود الدول والحكومات.
على أي حال، جاء العدوان والغزو الإسرائيلي الراهن بعد قصف وحشي لم تشهد الحروب الحديثة مثيلاً له منذ الحرب العالمية الثانية، والذي بلغ 30 ألف طن من المتفجرات، بما يكاد يعادل قوة قنبلتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان؛ لتؤكد كفاءة وبعد نظر المخطط العسكري الفلسطيني في غزة، إذ لم تفلح عمليات القصف المستمرة لمدة شهر كامل في التأثير في قوة وكفاءة شبكة الأنفاق وفاعليتها العسكرية.
كما تبين كفاءة وفاعلية هذه الأنفاق عندما بدأ الغزو البري الوحشي ضد قطاع غزة من الشمال والغرب، ومن الجنوب والشرق، فمقابل مقاومة بطولية لهذا الغزو البري وإجباره على التراجع أحياناً أو التباطؤ في السيطرة على الأرض في الشمال والغرب، كانت أوهام العدو تتزايد بإمكانية تحقيق سيطرة كاملة على أرض قطاع غزة.
ولم يدرك هذا العدو أنه يخوض حرباً من نوع جديد وفريد، فمقابل كل متر فوق أرض غزة -أو قتاله بالأساليب التقليدية للجيوش مثل محاولة تقسيم قطاع غزة إلى قسمين: شمالاً وجنوباً- كان المقاتلون الفلسطينيون يبرزون من فتحات الأنفاق السرية ليقتلوا من جنوده الكثير ويدمروا من دباباته ومدرعاته وآلياته الكثير في نمط جديد للحرب لم يعتده من قبل، ويتنقلون بخفة وخفية بين المناطق والقطاعات بعيداً من أعين استخباراته ووسائل رصده، فكان رده المزيد من القصف الوحشي والبربري فيما أطلق عليه المراقبون والمحللون العسكريون حرب “إبادة” بكل ما تحمله الكلمة والمصطلح من معنى.
حتى لو تمكَّن “جيش إبادة المدنيين” من كسب مساحات من أراضي سطح غزة، فتظل السيطرة الكاملة للمقاومة على مساحات غزة تحت الأرض، لتستمر معركة الاستنزاف والقتل لأسابيع، وربما شهور.
ولا شكَّ في أن هذه المعركة البطولية لشعب غزة خصوصاً، وشعب فلسطين عموماً، سوف تدرس في الأكاديميات العسكرية في تكتيكات وأساليب الحروب غير المتماثلة أو المتناظرة.
المصدر : الميادين