هل تنتصر “إسرائيل” في حرب الديموغرافيا ضد قطاع غزة؟
هل تستطيع “إسرائيل ” فعلاً أن تدفع الفلسطينيين إلى مغادرة أراضيهم، تحت سطوة القتل والإجرام والمجازر التي تُرتكب بحقهم؟
لا تبدو الحرب الهمجية التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد قطاع غزة في طريقها إلى الانتهاء قريباً، إذ إن المعطيات المتوفرة، والمؤشرات على الأرض وفي الميدان لا تشير إلى ما يمكن أن نطلق عليه “فصل الختام” لهذه الحرب القاسية والقذرة، والتي تستخدم فيها “إسرائيل” كل جبروتها العسكري، مدعومة بإمدادات هائلة من السلاح الأميركي القاتل، سواء من ذلك المكدّس في القواعد التابعة للقيادة الأميركية في الشرق الأوسط، أو الذي تنوء من حمله “جيرالد فورد” وأخواتها، والتي جاءت على عجل لوقف الانهيار الصهيوني، الذي بدا واضحاً في صبيحة يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي.
في هذه الحرب التي يرتكب فيها العدو جرائم يندى لها الجبين، متجاوزاً من خلالها كل القيم الإنسانية، والأعراف الدولية، يمكن لنا أن نلحظ سعياً إسرائيلياً واضحاً لتهجير أكثر من نصف سكان قطاع غزة، وفي حال كانت الفرصة مواتية، في ظل رد الفعل العالمي المتواطئ، والعربي والإسلامي الخجول، يمكن له أن يسعى لترحيل كل السكان الذين يبلغ عددهم أكثر من مليونين وأربعمئة ألف نسمة، يشكّل الأطفال والنساء منهم ما نسبته 60% تقريباً.
الخطط الإسرائيلية في هذا الخصوص بدت أكثر وضوحاً في الأيام الأخيرة، لا سيما وهي تلقى دعماً منقطع النظير من الحليف الأميركي الموثوق، ربما يصل في بعض الأحيان إلى المشاركة المباشرة كما هي الحال في المعركة العسكرية التي تُخاض الآن ضد القطاع، إذ يسعى العدو لإحداث تحوّل ديموغرافي تبدأ مرحلته الأولى في ساحة قطاع غزة، الذي شكّل منذ أمد بعيد شوكة في الخاصرة الصهيونية، التي اعتادت أن تفرض هيمنتها على جيرانها من دون أن يمسها أي سوء، أو يصيبها أي مكروه، وربما يصل في مرحلتيه الأخريين إلى الضفة الغربية، ومن ثم إلى فلسطينيي الداخل المحتل.
هذا المسعى الإسرائيلي تمت الإشارة إليه في كثير من الدراسات والبحوث منذ سنوات طوال، وتمت الإضاءة عليه بكثير من التفصيل في مؤتمرات عدة عقدتها كبرى الجامعات الإسرائيلية، مثل جامعتي حيفا و”تل أبيب”، وهو الأمر الذي اعتقد البعض أنه مجرد بروباغندا إعلامية تُستخدم من جانب الزعماء الصهاينة في مواسم الانتخابات والبازارات الحزبية.
في الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ أكثر من أسبوعين، عادت الدعوة إلى إحداث تحوّل ديموغرافي واسع يشمل تهجير مئات آلاف الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء المصرية إلى الواجهة من جديد، وهو ما ترجمته التهديدات الصهيونية لسكان محافظتي غزة والشمال بضرورة ترك منازلهم وأراضيهم وممتلكاتهم والتوجه إلى ما بعد منطقة وادي غزة، وهي المنطقة الفاصلة بين محافظة غزة والمحافظة الوسطى، وهو ما يعني عملياً إخلاء نصف القطاع تقريباً من سكانه الفلسطينيين.
ليس هذا فحسب، بل قام “جيش” الاحتلال بتنفيذ عمليات قصف جوي مكثف لم يحدث من قبل لإرغام المواطنين على المغادرة، وهو الأمر الذي أسقط مئات الشهداء، وهدم ودمر آلاف الوحدات السكنية، وحوّل جزءاً كبيراً من المباني والأبراج إلى كومة من الرمال، تعشعش في جنباتها رائحة البارود، وتنتشر أسفل منها رائحة الجثث التي لم يستطع الدفاع المدني الفلسطيني بإمكانياته المتهالكة استخراجها.
حتى الذين استجابوا للأوامر الإسرائيلية خوفاً على أطفالهم ونسائهم، وحزموا ما تبقى من أمتعتهم لم يسلموا من قصف العدو، الذي لاحقهم على الطرقات التي أعلنها آمنة، وقام بقتلهم بدم بارد على مسمع ومرأى من العالم كله.
في الحرب الإسرائيلية بوجهها الديموغرافي يمكن لنا أن نلحظ الكثير من التفاصيل، وكذلك الأهداف التي يسعى العدو لتحقيقها، والتي كما يبدو تتخطى مجرد إقامة مناطق عازلة على الحدود الشمالية والشرقية لقطاع غزة، تحفظ أمن مستوطناته في منطقة الغلاف كما يدّعي.
وهنا، تبرز أسئلة عدة مهمة من قبيل: هل تستطيع “إسرائيل” تنفيذ هذا المخطط ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين؟ وهل يستسلم الفلسطينيون لهذا الأمر وقد باتوا يملكون من الإمكانيات ما يساعدهم في الدفاع عن أنفسهم على عكس ما كان الأمر في حربي الـ 48 والـ 67؟ وأين دور العالمين العربي والإسلامي في التصدي لهذا المشروع؟ وأسئلة كثيرة أخرى لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة.
ولكن، اسمحوا لنا قبل الإجابة عن الأسئلة السابقة، أن نذكّر ببعض التفاصيل عن قطاع غزة، علّنا نعرف سبب هذا الإجرام الصهيوني بحق أهله البسطاء والطيبين، والذين يُعرف عنهم حسن الخلق، وطيب المعشر، وكرم الضيافة.
يمكن وصف قطاع غزة بأنه عبارة عن شريط ساحلي ضيق، يقع بمجمله على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ويشكّل ما نسبته 1.33 % من مساحة فلسطين التاريخية. تبلغ مساحة القطاع نحو 365كلم، وقد تمت تسميته بهذا الاسم نسبة لأكبر مدنه وأعرقها عبر التاريخ مدينة غزة. يحد القطاع من الغرب شاطئ البحر، فيما تحتل “إسرائيل ” الأراضي التي تقع على جانبيه الشرقي والشمالي، بينما توجد على حدوده الغربية الجنوبية جمهورية مصر العربية.
يُعدّ القطاع من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية، ويتوزع سكانه بين خمس محافظات، إذ يعيش 894 ألفاً منهم في مدينة غزة، بينما يعيش في محافظة خان يونس نحو 464 ألفاً، وتأتي محافظة الشمال في المركز الثالث من حيث عدد السكان بـ 389 ألفاً، تليها المحافظة الوسطى بـ 332 ألفاً، فيما تأتي محافظة رفح في المرتبة الخامسة بعدد سكان يقترب من 297 ألف نسمة.
رزح أهالي قطاع غزة تحت سلطة الانتداب البريطاني حتى العام 1948، حيث تاريخ إعلان “الدولة العبرية”، ثم خضع لحكم عسكري مصري بين عامي 48 و56، قبل أن يحتله “الجيش” الإسرائيلي لمدة خمسة أشهر أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ثم انسحب منه في آذار /مارس 1957 ليعود مجدداً إلى الحكم المصري.
في حرب العام 1967، احتل “جيش” الاحتلال الإسرائيلي القطاع مرة أخرى، إضافة إلى شبه جزيرة سيناء، واستمرت هذه الحال حتى أيلول /سبتمبر2005، ليخرج من غزة مدحوراً يجر أذيال الخيبة والهزيمة.
على الرغم من هذا الانسحاب الذي تم من جانب واحد ومن دون اتفاق سياسي معلن، استمرت “إسرائيل ” بين الفينة والأخرى في شن حروب وهجمات ضد قطاع غزة، أسفرت عن وقوع آلاف الشهداء، وعشرات آلاف الجرحى، كان من أشهرها عدوان العام 2008-2009، والذي استمر لمدة 21 يوماً، وأسفر عن سقوط نحو 1400شهيد، وعدوان 2012 الذي استمر لمدة ثمانية أيام، وسقط خلاله نحو170 شهيداً، إضافة إلى عدوان 2014، الذي استمر لمدة 51يوماً، وأسفر عن سقوط نحو 2400 شهيد، إضافة إلى تدمير هائل في البنى التحتية في القطاع المحاصر. تلا ذلك في الأعوام 2021، و2022، و2023 معارك استمرت لمدد تراوحت بين الثلاثة أيام، والستة أيام، سقط فيها مئات الشهداء، وآلاف الجرحى، ونتج منها أيضاً دمار كبير في المباني والمساكن والبنى التحتية المختلفة.
في المعركة الحالية والتي اندلعت شرارتها فجر السابع من تشرين الأول/أكتوبر من هذا الشهر بمبادرة فلسطينية خالصة، فاجأت العالم كله، وأصابت العدو وحلفاءه بصدمة لم يسبق لها مثيل، سعت “إسرائيل ” في إطار ردها على الهزيمة النكراء التي تعرضت لها قواتها النخبوية على حدود القطاع إلى ترميم قوة الردع التي انهارت تحت أقدام المقاتلين الشجعان، فقامت وما زالت بحملة قصف جوي عنيف، مستهدفة البشر والحجر والشجر، ومتجاوزة كل الأعراف والمواثيق الدولية التي تدعو إلى حماية المدنيين في أوقات الحرب، وضاربة عرض الحائط كل النداءات والمناشدات التي تدعو إلى وقف سفك دماء الأبرياء، الذين سقط منهم حتى الآن أكثر من 6000 شهيد، شكّل النساء والأطفال منهم ما نسبته 65% حسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن الكيان الغاصب وضع أهدافاً عدة يريد تحقيقها من وراء هذا العدوان السافر، والتي كان على رأسها إسقاط حكم حركة حماس في غزة، وتدمير قدرات المقاومة وإمكانياتها، وتغيير النظام السياسي في القطاع، فإنه وحسب تطوّر مسار المعركة على الأرض، بات يسعى بكل قوة للقيام بحملة تهجير واسعة، يُفرغ من خلالها أراضي القطاع، ويدفع بسكانه إلى المجهول، حيث الصحاري القاحلة، والبيئة الصعبة، والأحوال التي قد لا تسرّ صديقاً، وتُشمت عدواً.
وهنا، نعود من جديد إلى تساؤلاتنا السابقة، هل تستطيع “إسرائيل ” فعلاً أن تدفع الفلسطينيين إلى مغادرة أراضيهم، تحت سطوة القتل والإجرام والمجازر التي تُرتكب بحقهم؟ وهل يقبل الفلسطينيون بذلك وهم الذين دفعوا ثمناً باهظاً من أجل الدفاع عن تلك الأرض التي تساوي عندهم العرض والشرف والعقيدة؟ وأين مسؤولية العرب والمسلمين من التصدي لهذا الجرم المشهود، وما هو دورهم في مواجهته ومجابهته؟
في الحقيقة، يمكن لنا أن نلحظ أن الخطوة الإسرائيلية في هذا المجال لم تكن مُتوقعة بأي حال من الأحوال، ولم يكن الكثيرون من المختصين في الشأن الإسرائيلي تحديداً يتوقعون أن تلجأ “إسرائيل” إلى مثل هذا الخيار، حتى في ظل ما تعرضت له من هزيمة منكرة في مستوطنات “غلاف غزة”. بيد أن حسابات الحقل كما يبدو لم تتوافق مع حسابات البيدر، إذ ذهبت الحكومة الصهيونية المتطرفة، وبدعم أميركي وغربي واضح وفاضح، إلى رفع مستوى ردها على عملية “طوفان الأقصى “، إلى درجة إفراغ قطاع غزة من سكانه، أو على أقل تقدير النصف الشمالي منه، والذي يضم محافظة غزة، ومحافظة الشمال، والتي يسكن فيها نحو مليون ومئتي ألف مواطن، وتحويله إلى أرض بور، تعيش فيها البوم، وتنعق فوق أسوارها الغربان.
وعلى الرغم من القوة العسكرية الغاشمة التي تستخدمها “إسرائيل ” لتحقيق هذا الهدف، إلى جانب ما تقوم به من حرب نفسية هائلة لإرهاب المواطنين وتخويفهم، فإن نجاح هذه العملية قد يبدو ضرباً من المستحيل، بسبب الكثير من العوائق التي تعترض طريقها، وعديد الصعوبات التي تدفع في اتجاه إخفاقها. في مقدمة الأسباب تلك رفض جمهورية مصر العربية ترحيل الفلسطينيين في اتجاه أراضيها، وهذا ما عبّر عنه بوضوح الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي كما يبدو يدرك أكثر من غيره أن خطوة كهذه قد تشكّل خطراً على الأمن القومي لبلده، وقد تكون مقدّمة لإنشاء مخيمات لجوء على غرار تلك الموجودة في لبنان وسوريا والأردن.
ثاني الأسباب هو إدراك الفلسطينيين في قطاع غزة أن رحلتهم المحفوفة بالمخاطر إلى اللجوء المر والقاتل قد تكون عبارة عن تذكرة ذهاب بلا عودة، يفقدون من خلالها ما تبقى لهم من ذكريات، ويبتعدون مئات الأميال الأخرى عن وجهتهم التي يتوقون إليها منذ عشرات السنين في القدس الشريف.
وبالتالي، سيبذل الفلسطينيون بكل توجهاتهم السياسية، وانتماءاتهم الحزبية، وعلى الرغم من خلافاتهم الداخلية كل ما يمكن من جهد لإفشال هذا المخطط الشيطاني، وسيدفعون من أجل ذلك كل الأثمان الممكنة وغير الممكنة، وسيبذلون الغالي والنفيس في سبيل التمترس في أرضهم، وفوق ركام بيوتهم، وبين أزقة مخيماتهم ومدنهم. وقد ظهرت الإرادة الفلسطينية بشكل جلي في رفض الخروج من المدن والمخيمات رغم أطنان المتفجرات التي ألقيت على رؤوسهم، والتي دفعت البعض منهم إلى الخروج المؤقت خوفاً على حياة أحبائهم من أطفال ونساء وكبار السن، بيد أنهم ما لبثوا أن عادوا من جديد، أكثر عزماً، وأمضى إرادة، رافعين شعارهم الخالد: “نموت في أرضنا شامخين ولن نغادر”.
هذا الموقف الذي ثبّته الفلسطينيون بأشلائهم ودمائهم التي تناثرت في شوارع غزة وجباليا وبيت لاهيا، والذي ضرب المشروع الصهيوني في مقتل بحاجة ماسة إلى تضافر كل الجهود العربية والإسلامية، ومن العالم الحر لدعمه وإسناده ورفده بكل ما يلزم من مقوّمات الصمود، بما يضمن استدامته، وبما يكفل استمراريته.
وهنا، يأتي دور الدول العربية والإسلامية، والتي لم تبدِ حتى الآن على أقل تقدير ردة الفعل المناسبة التي يمكن أن تساهم ولو بالشيء القليل في دعم صمود أهالي القطاع، وفشلت رغم عديد الاجتماعات، والمشاورات، والاتصالات في مجرد فتح معبر رفح البري، لإدخال المساعدات، وإجلاء الجرحى، وفك الحصار الظالم الذي يضرب بأطنابه على القطاع منذ أكثر من 17 عاماً.
الدول العربية والإسلامية التي اعتادت خذلان الشعب الفلسطيني، باستثناء بعض المواقف الجادة من بعضها، مطالبة ببذل جهد أكبر وأسرع وأكثر جدوى، والخروج من حالة الارتهان للابتزاز الأميركي والغربي، والتقدم في اتجاه مواقف أكثر قوة، خصوصاً وهي تملك كل الإمكانيات المطلوبة لذلك.
ختاماً نقول ونحن لا يساورنا أي شك في صلابة شعبنا العزيز، ولا في إصراره وعنفوانه الذي ميّزه عن باقي شعوب العالم في فترات طويلة، إنه وبالرغم من جنون العدو المجرم وعدوانه، والذي دمّر أكثر من ربع مباني قطاع غزة، وقتل الآلاف من أبنائها الشجعان، وشرّد عشرات الآلاف الآخرين، فإن هذا الشعب لن يترك أرضه، ولن يتخلّى عن بيته، ولن يهجر بيّاراته.
هذا الشعب سيبقى حراً وكريماً وعزيزاً مهما ادلهمّت الخطوب، وزادت المخاطر، وعَظُمت التضحيات.
سيبقى كما عرفناه على الدوام صلباً وعنيداً لا يقبل الضيم، ولا يرضى بالذلة، ولا يستسلم للضغوط.
سيبقى شعب فلسطين، وشعب غزة، يساندهم كل شرفاء الأمة، وأحرار العالم، شارة النصر التي تتزين بها جباه الأحرار، وأيقونة العز والفخار التي ستهزم حلف الشر والإجرام، “ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً”.
المصدر : الميادين