حكومة الوحدة الوطنية في جنوب إفريقيا أمام حقل من الألغام
بعد حالة الترقب والتشكيك التي سادت المشهد السياسي في جنوب إفريقيا، في إثر التأخر في حصول ائتلاف لتشكيل حكومة للبلاد رغم مرور أكثر من شهر على صدور نتائج الانتخابات التشريعية التي حصلت في 29 أيار/مايو الماضي، والتي شهدت بدورها تراجعًا في شعبية حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي أسسه نيلسون مانديلا ونجح في الانتقال بجنوب إفريقيا منذ ما يزيد عن ثلاثين عامًا، من نظام سياسي يعتمد على الفصل العنصري إلى نظام مغاير يستند لمبادئ ومعايير ديمقراطية في الحكم والمشاركة السياسية، شهدت حكومة الوحدة الوطنية النور بعد مخاض عسير ليتم الإعلان عن ولادتها من قبل رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا مطلع شهر تموز/يوليو الحالي.
وقد وصفت الحكومة الجديدة من قبل أحزاب المعارضة بأنها تمثل فصلًا جديدًا من تاريخ جنوب إفريقيا، وتعد الأولى من نوعها منذ ثلاثة عقود، بعد تراجع شعبية حزب المؤتمر الوطني الذي حصل على 22 حقيبة، بينها حقائب سيادية مثل المال والشؤون الخارجية والطاقة والدفاع، واضطرّ للتنازل عن 12 حقيبة للأحزاب المعارضة، ولا سيما للتحالف الديمقراطي الذي يعد أكبر الأحزاب المعارضة مما أهله للحصول على ست حقائب بما فيها التعليم والبيئة، بينما وزعت الحقائب الستة المتبقية لباقي الأحزاب الصغيرة، بما فيها حزب إنكاثا للحرية والحركة الديمقراطية المتحدة.
خسارة الحزب الحاكم للأغلبية المطلقة 57% التي استطاع تحقيقها في انتخابات 2019م بمعدل 230 مقعدًا من أصل 400 مقعد، إلى 159 مقعدًا فقط، بمعدل 40% في انتخابات أيار الماضي، يمكن إرجاعها لمجموعة من الأخطاء المتراكمة والناجمة عن السياسات والاستراتيجيات العامة التي تبناها حزب المؤتمر الوطني خلال نصف عقد من الزمن، والتي يتمثل أبرزها في النقاط الآتية:
أولًا – فشل السياسات الاقتصادية واستراتيجية مواجهة الأزمات التي تبناها حزب المؤتمر خلال أزمة جائحة “كوفيد – 19” وما تلاها من تداعيات سلبية، في احتواء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد، رغم كونها واحدة من أكبر الدول المصدرة للذهب والبلاتين في العالم، إلا أن حجم الديون الخارجية تجاوز 300 مليار دولار نهاية عام 2023، وبلغت نسبة الضريبة فيها 45% على الأفراد و25% على الشركات، مما جعل 55% من سكان جنوب إفريقيا تحت خط الفقر، وارتفاع حجم البطالة إلى 33%، أي قرابة ثلث القوى العاملة.
ثانيًا – انبثق عن الأزمة الاقتصادية العديد من الأزمات والظواهر الاجتماعية السلبية والتي عجز حزب المؤتمر وما تبناه من سياسات في التصدي لها، بما في ذلك مواجهة الجريمة المنظمة، والخطف، وتجارة الأعضاء، بصورة غير مسبوقة، إذ سجلت شرطة جنوب إفريقيا 2400 حالة خطف في الربع الأخير من عام 2023، بزيادة قدرها 22% قياسًا بالعام السابق، وسجلت نسبة الجريمة المباشرة خلال الربع الرابع من 2023 أعلى معدلاتها 51327 عملية، كما سجلت الفترة ذاتها مقتل 7710 شخص، بينهم 1100 امرأة، مما جعل جنوب إفريقيا من أخطر دول العالم.
ثالثًا – تصدع البنية الداخلية لحزب المؤتمر الوطني نتيجة عاملين، أولهما يتمثل في انتشار الفساد وتورط كبار الشخصيات القيادية بالحزب بها، وفي مقدمتهم الرئيس سيريل رامافوزا بهذه القضايا، حيث واجه في عام 2022، فضيحة إخفائه ثروة تتراوح بين 4 و5 ملايين دولار في مزرعته التي تعرضت للسرقة دون إبلاغ الضرائب أو الشرطة عنها، وعرفت باسم فضيحة “فالا فالا”. أما العامل الثاني فيتجلى في ازدياد موجة الانشقاقات التي شهدها الحزب، وتحول هذه الانشقاقات لنواة قوى وأحزاب معارضة له، ومن أبرز هذه الموجات، مجموعة الشبان الذين تم فصلهم نتيجة رفضهم قرار قيادة الحزب مصادرة الأراضي والمناجم وتأميمها، وقد أسس هؤلاء حزب “المقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية” بقيادة جوليوس ماليما، وحصل في الانتخابات الأخيرة على 9.5% من أصوات الناخبين، والانشقاق الأكبر نهاية العام الماضي، بعد تعليق عضوية الرئيس السابق جاكوب زوما بسبب اتهامه بالفساد، والذي سرعان ما توجه لدعم حزب “رمح الأمة”، الذي حصد 14.5% من الأصوات في انتخابات أيار/مايو 2024م، نتيجة تبنيه خطابًا شعبويًّا وبرنامجًا انتخابيًّا يتضمن إعادة توزيع الأراضي ومنع الشركات الأجنبية من استغلال موارد البلاد، وتحسين مستوى المعيشة، وتوفير 5 ملايين فرصة عمل خلال 5 سنوات، وخاصة في مقاطعة كوازولو ناتال، مسقط رأس زوما، الأمر الذي جعل مناصري حزب المؤتمر الوطني وأتباعه يشككون في قدرة الحزب على تنفيذ ما وعد به من نهاية نظام الفصل العنصري، في ترجمة حلم حركات التحرر بالوصول للرخاء الاقتصادي، كما حدث في زيمبابوي وناميبيا.
رابعًا: العجز في معالجة أزمة الطاقة التي ظهرت عام 2007، لا سيما في مجالي الكهرباء والماء، وتردي البنية التحتية في أكبر المقاطعات الداعمة للحزب بما في ذلك مقاطعتا جوتنج (التي تضم العاصمة بريتوريا وجوهانسبرغ)، نتيجة تآكل هذه البنى، والفشل في وضع رؤية طولة الأمد، لاعتبارات تتعلق بتراجع حجم الاستثمارات، والانفاق غير المنتظم نتيجة الفساد، الذي أوصل حجم ديون شركة إسكوم المنتجة للكهرباء إلى ما يزيد عن 3 مليارات دولار العام الماضي، مما أرجع البلاد إلى عصور الظلام.
بالعودة للحكومة الوطنية التي تم الإعلان عن تشكيلها، هناك الكثير من التحديات المحدقة بها، من أبرزها الخروج من الأزمة الاقتصادية بأقل الخسائر، ومواجهة الفساد، وإعادة تأهيل البنى التحتية إلى جانب الكثير من التحديات الداخلية، إلا أن الأخطر من ذلك هو ما يتعلق بالخلافات المحتملة التي من المحتمل وبقوة أن تنشب داخل هذه الحكومة نتيجة عدة عوامل، والتي قد تشكّل كلّ منها لغمًا في حقل الحكومة، من أبرزها، الاختلافات الإيديولوجية بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والتحالف الديمقراطي، وهو ما قد يعيق عملية صنع السياسات في المستقبل، حيث يسعى التحالف الديمقراطي إلى إلغاء بعض برامج تمكين السود التي ينفذها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. كما يعارض التحالف رغبة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في مصادرة الأراضي – التي تعود ملكية معظمها لأصحاب البشرة البيضاء – دون تعويض أصحاب هذه الأراضي، مقابل منحها للمزارعين السود مجانًا. كما يسعى التحالف الديمقراطي أيضًا إلى إعادة صياغة مشروع قانون الحد الأدنى للأجور في جنوب إفريقيا.
ومن أبرز النقاط التي قد تشكّل تحديًا وتحدث سجالًا بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والتحالف الديمقراطي، هو ما يتعلق بموقف جنوب إفريقيا تجاه القضية الفلسطينية ومسألة العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزّة، وبصورة خاصة بعدما بادرت جنوب إفريقيا لتقديم شكوى ضدّ الكيان “الإسرائيلي” لمحكمة العدل الدولية، لإصدار قرار يجبر “إسرائيل” على الالتزام بنصوص منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، الأمر الذي دفع العديد من الدول للانضمام لهذا المسار، الذي يخشى أن يشهد تراجعًا خلال هذه الحكومة، بسبب الموقف الذي يتبناه التحالف الديمقراطي “الأبيض” المؤيد لـ”إسرائيل”.
المصدر : العهد الاخباري