رأيته.. إنه بشارة النصر
رأيته، نعم رأيته.. كان هو الذي لا يأتي إلا في الأوقات الحاسمة..
كان هو من علمني أول حروف المقاومة.. يده هي التي حملت إلينا السلاح، في تلك البدايات الجميلة، كان لقبه يومها “أبا…العاملي”، وكنا صغاراً نخطو على أول الدرب، علمنا كيف نفكك “بندقية الكلاشينكوف” وكيف نعيد تركيبها، وأهم شيء علّمنا أن الدرب صعب وفيه أشواك كثيرة، وأنه رغم الصعاب سيأخذنا هذا الطريق إلى النصر.
كانت كلمة نصر.. بالنسبة لنا نحن الجيل الذي ترعرعنا في كنف الهزيمة، وشاهدنا الخيبات المتوالية، ورأينا الانكسارات في عيون أبائنا.. أشبه بأنشودة اللغة العربية في الصفوف الابتدائية، لا أكثر.
أحبننا “العاملي” وصرنا نتحلق حوله في وقت الدرس وفي المسجد يؤم صلاتنا.. وفي التظاهرة يعلّق على صدورنا صورة الإمام الخميني، لكنه كعادة كل الضيوف، يغادرون على عجل.. بعد أن يتركوا خلفهم أثراً طيباً، همسنا لبعضنا بعضاً.. ربما هو هناك فوق رؤس الجبال يصارع الغزاة.. قال آخر ربما هو من نفذ أمس العملية الاستشهادية.. وقال ثالث.. حتماً سيعود “العاملي” ليقص علينا حكاية “النصر” التي تخوضها المقاومة في جبال عاملة.
مرّت سنوات.. كان ذلك في العام 1986، كنت برفقة أخي الشهيد نزار في بيروت، نعم رأيته أمام مسجد بئر العبد، أخذني بالأحضان.. وكان لا يزال يرتدي بنطاله ذا اللون الكاكي والكوفية الثورية، همست بأذنه “ظننا أنك استشهدت”، ابتسم وقال نحن موعودون بالنصر أو الشهادة.. كان النصر يومها رفيق المقاتلين، وكان العاملي يؤرخ لأول هزيمة للعدو عندما اندحر إلى ما بعد صيدا عام 1985.
نعم بالأمس رأيت “العاملي”، لم يستشهد بعد. غريب هذا الرجل! غريب أن يبقى حياً.. سألت هذا السؤال في 23 أيار عام 2000، عندما رأيته على نقطة صفر من الحدود، يدير حركة المجاهدين في التحرير، يومها لم يكن لديه الوقت الكافي ليقول لي كيف صاغ هذا النصر مع إخوانه.
مضت الأيام و”العاملي” لا يغادر وجداني..كلما ذُكر أمامي النصر، تذكرته، لكنه في الحقيقة اختفى.. أو على نحو أدق، لم أعد أراه، سيأتي مع نصر آخر، ربما هناك أراه.
كانت الساعة تشير إلى موعد مقاتلة الإرهاب الآتي هذه المرة من الشرق.. والموكب الطويل من الفوارس المقاومين في طريقه إلى الشام، وهذه المرة أيضاً رأيته، كان “العاملي” في مقدمة الفرسان، لوّح لي بيده ومضى في طريقه، هذه المرة أيضاً لم يقل شيئاً .. لكن النصر عاد قبله، نعم عاد العاملي بالنصر، كأنه سيف “ذو الفقار” لا يهزم، لا ينحني ولا ينكسر.. ولكن خلفه الكثير من الفرسان الذين نالوا الشهادة..
بالأمس رأيته..
كان كما هو ذلك البهي في عام 1982، والفارس المقدام في 1985 والمنتصر في 2000.. بالأمس كان يرسم إلى القدس طريقاً.. أيضاً هذا الطريق معبّد بالدم.. مرصوف بكثير من القلادات الفضية، محفوف بكثير من الأمل والحب.. غمرني، أنا الصغير الذي يتوق لرائحته التي يعبق منها أريج الشهادة، كانت يده دافئة، وعيناه واثقتين، وسمرته كوتها الشمس فوق التلال.
“أيها القادم من أرض الجنوب.. ساطع وجهك في كل الدروب” عادة ما نقولها للشهداء.. لماذا لا نقولها للأحياء المنتصرين.. وهذا العاملي لا يحمل في جعبته غير النصر..
رأيته نعم رأيته.. ومنذ رأيته أدركت أن النصر قاب طلقة منه أو أكثر.. نعم هذا “العاملي” لا يأتي إلا في الأوقات الحاسمة، هو كما الملائكة.. يأتي وبين يديه بشارة النصر الحاسم.
لا تستغربوا، فبعض الوجوه.. هي بشارات خير، ووجه هذا الفارس المقاوم بشارة النصر.. أقسم، إنه بشارة النصر الآتي قريباً.
المصدر : العهد الاخباري