بالأرقام.. من يساند الاقتصاد الصهيوني للاستمرار في حرب الإبادة الجماعية
لا شك أن المعركة الراهنة وصمود المقاومة في فلسطين وجميع جبهات الإسناد شكلت تهديدًا وجوديًا للكيان. ولا يقتصر التهديد على الجوانب العسكرية وسقوط الردع فقط، بل على مستوى ومسقبل كيان لا يعيش إلا على فائض القوّة العسكرية والتكنولوجية والأهم الاقتصادية.
وربما تتركز التقارير على الجوانب العسكرية والسياسية وتهمل كثيرًا الملف الاقتصادي والذي يشكّل العمود الأكبر لخوض الحروب، حيث لا حرب في ظل غياب اقتصاد للحرب.
ويقوم اقتصاد الحرب، وفقًا للتعريفات، على تنظيم القدرة الإنتاجية والتوزيعية للدولة خلال فترة الصراع وإجراء تعديلات جوهرية على إنتاجه الاستهلاكي لاستيعاب احتياجات الإنتاج الدفاعي، حيث يتعامل كلّ بلد في أوقات الحرب مع إعادة تشكيل اقتصاده، وقد تُستخدم أموال الضرائب في المقام الأول في الدفاع، وإذا كانت البلاد تقترض مبالغ كبيرة من المال، فقد تذهب هذه الأموال في الغالب إلى الحفاظ على الجيش وتلبية احتياجات الأمن القومي.
وفي كيان وظيفي مثل الكيان الصهيوني، فإن الدعم الخارجي الاقتصادي مثله مثل الدعم الخارجي العسكري هو الوسيلة الوحيدة التي تمكّنه من الاستمرار في عدوانه وإجرامه.
ومع صمود المقاومة ومحورها، ورغم كلّ المساعدات المقدمة للكيان، فقد تواترت التقارير الاقتصادية التي تفيد بهزة عنيفة تعصف باقتصاد الكيان، وللمرة الأولى منذ عدة عقود، أظهر تقرير هجرة الثروات الخاصة لعام 2024 الصادر عن شركة “هنلي أند بارتنرز” أن المهاجرين الأثرياء المغادرين من الأراضي المحتلة أكثر من أولئك المُصرّين على البقاء.
كما نقلت صحيفة “غلوبس “الإسرائيلية” عن التقرير خروج كيان العدوّ من قائمة “هنلي آند بارتنرز” للدول العشرين المستقطبة للثروات الخاصة، وهو خروج كبير عن المركز الـ12 الذي بلغته العام الماضي، عندما شهدت “إسرائيل” تدفقًا صافيًا لـ600 فرد ثري.
كما أضافت “غلوبس”، إن هروب المُستثمرين الأثرياء لا يشكّل مجرد ضربة لصورة الأمان، بل يمثل أيضًا انتكاسة اقتصادية كبيرة قد يكون من الصعب عكس اتّجاهها.
وهذا التقرير يضاف لما أورده “كولين باورز”، عضو برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة نوريا للأبحاث، والمتخصص في الاقتصاد السياسي، حيث أورد نقلًا عن تقرير المؤسسة، أن الخبراء في وزارة المالية الصهيونية قدروا أن مناورات بنيامين نتنياهو لتغيير المحكمة العليا (والمعارضة التي أثارها ذلك) ستؤدي وحدها إلى خفض النموّ بما يتراوح بين 15 و25 مليار دولار سنويًا. وقد أشارت دراسة أجرتها شركة “راند” الاستشارية الأميركية إلى أن الخسائر الاقتصادية في حال شن حملة عسكرية محدودة، ولكن طويلة الأمد ضدّ فلسطين، ستبلغ 400 مليار دولار على مدى عشر سنوات. ووفقًا لوزارة المالية “الإسرائيلية”، تكلف عملية “السيف الحديدي” الحالية الاقتصاد 269 مليون دولار يوميًا. وبطبيعة الحال، ستكون تكلفة الحرب على نطاق المنطقة أكثر بكثير.
وهذا الأمرر قد أثار تساؤلات قلقة داخل المجتمع الصهيوني، عما إذا كان المجتمع الإسرائيلي، الذي يعيش في درجة معينة من الراحة المادية، قادرًا على تحمل العودة إلى اقتصاد الحرب كما كان الحال في السبعينيات، عندما كان الإنفاق العسكري يمثل 30% من الناتج المحلي الإجمالي.
وهنا ندخل إلى العوامل التي تساعد العدوّ على الاستمرار في إجرامه وعدوانه وحرب الإبادة التي يشنها على غزّة:
أولاً: أسواق السندات
تفيد التقارير بأن عمق أسواق رأس المال “الإسرائيلية” يسمح للائتلاف الحاكم بتمويل جزء كبير من مشاريعه العسكرية محليًا، وسيتم في هذا العام بيع حوالي 70% من السندات الحكومية التي تبلغ قيمتها 60 مليار دولار في الأسواق المحلية، وسيتم تقويمها بالشيكل “الإسرائيلي” الجديد.
وقد تمكّنت وزارة المالية “الإسرائيلية” خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام من الاقتراض (من خلال بيع سندات حكومية) ما مجموعه 67.5 مليار شيكل من دون تحمل تكاليف سداد باهظة.
ثانياً: تراكم احتياطات العملات الأجنبية
كما أن تراكم احتياطيات العملات الأجنبية على مدى العقدين الماضيين يمثّل دفعة للعدوان، فبينما كانت قيمة الاحتياطيات تُقدّر بـ 27 مليار دولار في عام 2005، تجاوزت تلك التي يحتفظ بها بنك “إسرائيل” 200 مليار دولار في أوائل عام 2024. وهي لا تدرّ إيرادات للدولة فحسب، بل تمكّن البنك المركزي أيضًا من الدفاع عن الشيكل في أسواق صرف العملات. وهذا يساعد على إبقاء التضخم منخفضًا، مما يعزز استقرار اقتصاد الحرب.
ثالثًا: التدفق المستمر للمساعدات بالذخائر
تفيد التقارير بأن الحرب الإجرامية التي يشنها الجيش “الإسرائيلي” تتطلب أحجامًا من الذخيرة تفوق بكثير ما يستطيع المصنعون المحليون إنتاجه حاليًا، وهم الذين أعادوا توجيه أنشطتهم نحو المنتجات المتطورة. فبدون التدفق المستمر لقذائف المدفعية والصواريخ والرؤوس الحربية وما شابه ذلك، والتي تأتي جميعها تقريبًا من الولايات المتحدة (أو من مخابئ الأسلحة التابعة لها والمنشورة مسبقًا في “إسرائيل” قبل هذه الحرب) وألمانيا، فإن الحملات الحالية على غزّة وجنوب لبنان ستفشل بسرعة.
رابعًا: خدمات جوجل والذكاء الاصطناعي
كما تقول التقارير وعلى ألسنة الصهاينة أنه، ومن دون الخدمات “السحابية” (كلاود) التي توفرها غوغل ومايكروسوفت فضلًا عن تقاسم بيانات واتساب التي توفرها شركة ميتا، يمكننا أن نكون على يقين من أن خطة “إسرائيل” للقتل الجماعي التي يتم قيادتها بالذكاء الاصطناعي ستنهار بسرعة.
خامسًا: العلاقات الخارجية
يفيد الخبراء الصهاينة أن الأكثر أهمية في تفسير قدرة صمود الاقتصاد “الإسرائيلي” على المدى المتوسط، هو متانة علاقاته الخارجية التي توفّر له دعما بجميع أنواعه: من التدفقات المالية إلى التجارة، بما في ذلك الدعم اللوجستي، ومن هذه الأمثلة:
1 – وعد الهند بتوفير ما بين 50 إلى 100 ألف عامل ليحلّوا محل العمال الفلسطينيين الذين كانوا يأتون من الضفّة الغربية. وهو ما يكفي، في نهاية المطاف، لجعل الإبادة الجماعية “الإسرائيلية” ممكنة.
كما يقول الصهاينة إنه لا يجب أن يُستهان بمساهمة الهند التي تستورد كميات كبيرة من الأسلحة “الإسرائيلية” وتصدر العمالة الرخيصة لشغل الوظائف التي أُفرغت من الفلسطينيين. ومن الواضح أن البضائع تُنقل إلى “إسرائيل” عبر الخليج والأردن رغم الصعوبات، لتملأ رفوف المتاجر.
2 – طغمة كبيرة من الجهات الفاعلة الأميركية، العامة والخاصة، والتي تقدم حاليًّا دعمًا ماليًّا للدولة والجيش والاقتصاد. لكن تبقى التدفقات الآتية من الحكومة الفيدرالية هي الأكبر. إذ تغطي المنحة السنوية من برنامج التمويل العسكري الخارجي الأميركي – 3.3 مليار دولار سنويًا منذ إدارة أوباما (2009 – 2017) – بشكل عام 15% من إنفاقها الدفاعي. ومع توقع زيادة هذا الإنفاق الدفاعي إلى نحو 15 مليار دولار بحلول عام 2024، فإن خط الائتمان المجاني للحكومة الأميركية سيزداد بشكل كبير هذا العام.
وفي نيسان/أبريل الماضي، أقر الكونغرس الأميركي قانون الأمن القومي، ومنح 13 مليار دولار كمساعدات إضافية. ومن هذا المبلغ، تم تخصيص 5.2 مليار دولار لتجديد أنظمة القبة الحديدية والشعاع الحديدي ومقلاع داود الدفاعية، و4.4 مليار دولار لتجديد مخزون الذخيرة المستنفدة و3.5 مليار دولار لأنظمة الأسلحة المتطورة.
3 – منظمات أميركية لميزانية “إسرائيلية”، حيث يتعدى الأمر الحكومة الفيدرالية، ففي جميع أنحاء الولايات المتحدة، تمنح الولايات والمقاطعات وحتّى البلديات تمويلها. وتُشرف على ذلك “مؤسسة “إسرائيل” للتنمية”، وهي كيان مسجل في الولايات المتحدة ويعمل كوسيط محلي وضامن نيابة عن وزارة المالية “الإسرائيلية”. ومنذ عام 1951، تُصدر مؤسسة التنمية من أجل “إسرائيل” ما يسمّى بـ“السندات “الإسرائيلية”” في السوق الأميركية. وعلى الرغم من أنها نادرًا ما تكون معروفة لدى الجمهور، تمثل هذه الأدوات المالية المقومة بالدولار والتي تهدف إلى توفير دعم عام للميزانية “الإسرائيلية”، من 12 إلى 15% من إجمالي الدين الخارجي لـ”إسرائيل”. وهي تشكّل بالتالي مصدرًا كبيرًا للائتمان والعملة الصعبة لتل أبيب.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، قامت “مؤسسة “إسرائيل” للتنمية” بزيادة مبيعات السندات بشكل كبير، جزئيًا من خلال توسيع شراكتها مع منظمة يمينية هي مجلس التبادل التشريعي الأميركي. فعلى مدى العقدين الماضيين، كان مجلس التبادل التشريعي الأميركي أحد أكثر القوى تأثيرًا . وفي أعقاب عملية “السيف الحديدي”، نظمت البنوك الأميركية أيضًا عمليات بيع سندات خاصة نيابة عن الدولة “الإسرائيلية”، والتي لم يتم الإعلان عن عوائدها.
سادسًا: دور الاتحاد الأوروبي
من خلال تقارير الصهاينة الاقتصادية، هناك إشادة بدور الاتحاد الأوروبي، حيث تقول التقارير “الإسرائيلية”، إن الحدث الأكثر لفتًا للنظر يتمثل في العملية التي قادها بنك أميركا وغولدمان ساكس، حيث اشتركا، في مارس/آذار 2024، في أول بيع دولي للسندات “الإسرائيلية” بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول. وإلى جانب “دويتشه بنك” (Deutsche Bank) وبي إن بي باريبا (BNP Paribas)، تمكّن هؤلاء الممولون من جذب عدد كافٍ من المستثمرين من جميع أنحاء العالم لجعلها أكبر عملية بيع في تاريخ إسرائيل: ما يقرب من 7.5 مليارات من السند الأوروبي – اليوروبوند.
ولا تتوقف المساهمات الأميركية الخاصة عند هذا الحد. ففي حين أن الاستثمارات التكنولوجية في تراجع عمومًا، يواصل عدد من الشركات ضخ رؤوس الأموال على الرغم من الإبادة الجماعية المستمرة. وهكذا، على مدى الأشهر الستة الماضية، استثمرت شركة إنفيديا، الشركة الرائدة عالميًا في إنتاج الرقائق والذكاء الاصطناعي ومقرها في سانتا كلارا، مبالغ كبيرة في الاستحواذ على شركات “إسرائيلية”. وفي ديسمبر/كانون الأول، وبدعم قيمته 3.2 مليار دولار ومعدل ضريبي مخفض للغاية (7.5% بدلًا من 23%)، وافقت “إنتل” (Intel) على بناء مصنع جديد لأشباه الموصلات. وبعد شهر، أعلنت شركة “بالانتير” للتكنولوجيا (Palantir Technologies)، الشركة المتخصصة في نمذجة الذكاء الاصطناعي، عن شراكة إستراتيجية جديدة مع وزارة الدفاع “الإسرائيلية”.
كما يتضح من مشاركة “دويتشه بنك” (Deutsche Bank) وبي إن بي باريبا (BNP Paribas) في إصدار السند الأوروبي أن القارة العجوز تلعب دورًا لا يستهان به. إذ حافظ بنك الاستثمار الأوروبي — ومقره في لوكسمبورغ — والمملوك بشكل مشترك من قبل الدول الأعضاء الـ 27 في الاتحاد الأوروبي، على نيته ضخ 900 مليون دولار في الاقتصاد الإسرائيلي. ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، أجاز برنامج “أفق أوروبا”، وهو الأداة الرئيسية لتمويل البحث والابتكار، بتقديم ما يقرب من 100 منحة للشركات والمؤسسات “الإسرائيلية”. وعلى نطاق أصغر، قام مجلس الاستثمار الأوروبي غير الربحي مؤخرًا بزيادة استثماراته في الشركات الناشئة “الإسرائيلية”.
سابعًا: تبادل السلع والخدمات
يقول الخبراء الصهاينة، إن تبادل السلع والخدمات هو الأهم. وهنا، لعب التدفق المتواصل للصادرات إلى السوق الأوروبية، والتي تظل شريك “إسرائيل” الرئيسي، دورًا رئيسيًا في تحقيق فائض الميزان التجاري لـ”إسرائيل” بنسبة 5.1% في الربع الأخير من عام 2023. وعلى الرغم من أنه كان هناك حديث في العواصم الأوروبية عن مراجعة اتفاقية الشراكة للاتحاد الأوروبي مع “إسرائيل”، تظهر البيانات الأولى المنشورة لعام 2024 أنها تواصل استيراد المنتجات “الإسرائيلية”: أكثر من 4.27 مليار يورو في الربع الأول – وهو مبلغ يتطابق تقريبًا مع ما كان عليه في السنوات الأخيرة ويعمل بمثابة طوق نجاة للاقتصاد الإسرائيلي.
ثامنًا: دور تركيا الخفي
تقول التقارير نصًا، حتى وإن فرضت وزارة التجارة في أنقرة حظرًا تدريجيًا على التجارة مع “إسرائيل” اعتبارًا من بداية أبريل/نيسان 2024، يُعتقد بأن هذا الإجراء لن يتم تنفيذه بالكامل. في مرحلة أولى، تمنح السياسة المعلنة مهلة ثلاثة أشهر كي يتسنى للشركات تلبية الطلبات الحالية من خلال دول ثالثة. وبالتالي من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى تقليص فوري في العرض.
كما أن الروابط التجارية بين منتجي الصلب والألمنيوم الأتراك و”إسرائيل” عميقة وقديمة، واعتماد الأولين على هذه السوق معروف جيدًا. لذلك، يمكن للمصدرين الأتراك إيجاد حلّ لتوصيل الإمدادات الأساسية ليس فقط لشركات البناء، ولكن أيضًا لصناعة الأسلحة – ربما من خلال إعادة الشحن في سلوفينيا.
هذه هي الدول والكيانات التي تساند اقتصاد الصهاينة للاستمرار في حرب الإبادة الجماعية رغم استخدام العديد منها مساحيق التجميل السياسية لإدانة العدوان أو الطلب الخجول لوقف إطلاق النار، وهو ما يستدعي موقفاً قوياً تجاهها وأقله فضحها على رؤوس الأشهاد.
المصدر : العهد الاخباري