ترامب مدان.. كيف يترجم ذلك في السياق الانتخابي؟
لم يُحاصَر رئيس في الولايات المتحدة الأميركية مثلما حوصر دونالد ترامب. بدأت محاكماته الواحدة تلو الأخرى من أجل عزله ومنعه من ممارسة حقة الدستوري والترشح للرئاسة. لقد استطاع ترامب خلال الفترة الماضية تحييد أهم مرشحين جمهوريين في الولايات المتحدة وهما نيكي هيلي ورون ديسانتيس (حاكم فلوريدا). فالأولى خرجت من السباق بعد خسارتها في عقر ولايتها بنسلفانيا لصالح ترامب، والثاني تبنّى ترشح ترامب طوعيًا وانسحب من السباق لصالحه. ويخشى الديمقراطيون بقاء ترامب في السباق الرئاسي، بداية لأنه المرشح الأوفر حظًا من رئيسهم المهلهل جو بايدن؛ والسبب الثاني، التناقض في النظرة إلى قضايا السياسات الخارجية ما بين بايدن وترامب.
تاريخيًا، لم يستقل أي مرشح في الولايات المتحدة ولم ينسحب بسبب حجم القضايا المهول الذي رفع ضدّه، ما عدا ريتشارد نيكسون، الذي استقال في العام 1974، بعد فضيحة ووترجيت. والمطلوب اليوم من تثبيت الحكم على ترامب في قضية جنائية لها علاقة بدفع أموال لبائعة هوى، إحداث فضيحة تفقِد الأميركيين الثقة به. فبحسب ما نشر على عدة مواقع تشرح القانون الأميركي المتعلّق بالترشح للانتخابات، لا يمنع الدستور الأميركي بموجب المادّة الثانية فيه، ترامب من الترشح للرئاسة، لأن البند الثاني يضمن حق أي شخص بالترشح، بشرط أن تتوافر فيه الشروط التالية: أن يكون مواطنًا أميركيًا ولد في الولايات المتحدة، وأن يكون مقيمًا فيها لمدة 14 عامًا ممتالية على الأقل، وأن لا يقل عمره عن 35 عامًا. وهذه الشروط لا تتضمن الإدانة الجنائية أو حتّى السجن.
ومن ناحية أخرى يرى بعض معارضو ترامب ومنهم فقهاء قانونيون وسياسيون جمهوريون معارضون لسياسات ترامب، أنه بحسب التعديل الرابع عشر في البند الثاني والذي أقر في تموز/ يوليو من العام 1868 أنه: “لا يجوز لأي شخص أن يشغل منصبًا حكوميًا أو عسكريًا سبق له القسم باحترام الدستور ثمّ اشترك بعد ذلك في أي تمرد أو عصيان ضدّها، أو قدم عونًا ومساعدة لأعدائها”. وهو ما يُتَهم ترامب بالتشجيع على حدوثه في السادس من كانون الثاني/ يناير 2021، عندما تمت مهاجمة الكابيتول. مع العلم أن المحكمة الدستورية كانت قد برّأت ترامب من هذه التهمة.
ولكن الواضح أن الإتهامات المتتالية لترامب هي من أجل تشتيت انتباهه في مسيرة الانتخابات التي تزداد حدتها مع اقتراب الموعد في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، خاصة وأن الحكم بالإدانة لن يؤثر على الترشح في الانتخابات القادمة. لكن الاستطلاع الذي قامت به بلومبرغ ومورنينغ كونسلت في هذا العام أظهر أن 51% من الناخبين يفضلون سياسات ترامب الاقتصادية، في ما أظهر استطلاع رويترز/ غبسوس أن 48% سيرفضون التصويت لصالح ترامب إذا أدين، في ما أظهر استطلاع جامعة كوينيبياك في أيار/ مايو الماضي أن 6% فقط، سيكونون أقل ميلًا للتصويت له في حال الإدانة. وحتّى هذه النسبة تعتبر هامة جدًا والمنافسة بين الطرفين محتدمة.
ولكن وفقًا للتجارب الأميركية السابقة، وخلال محاكمة بيل كلينتون بقضية مونيكا لوينسكي، التي اتّهمته بالتحرش الجنسي، وهي قضية أهم بكثير من دفع مبلغ من المال لبائعة هوى من أجل شراء صمتها، لم يكترث الأميركيون فعليًا لحياة الرئيس الخاصة واعتبروها أمرًا عائليًا، واستمر دعمهم له، ولذلك فإن ما سينتج عن قرار الإدانة من تراجع لدعم ترامب سيعبر عنه في الانتخابات القادمة. ولكن إذا ما استطاع ترامب الاستئناف في تموز/ يونيو القادم، والذي بسببه تأجل اصدار الحكم، فلا يظنن أحد أن هناك ما سيمنع ترامب من أن يكون سيد البيت الأبيض في العام 2025.
كل الذين يحاولون عرقلة مسيرة ترامب خلال السنوات 2021 وحتّى اليوم هم إما منافسون، والواضح أنهم خسروا امامه في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، أو منافسه الديمقراطي الأوحد اليوم وهو جو بايدن، والذي في الحقيقة لم يعد منافسًا. ويبدو اليوم أن منافس ترامب الحقيقي والذي يسعى خلفه بكل قوته، هو النظام العميق في الولايات المتحدة الأميركية. ومع أن المرشح عاد لا يخوض في السياسة الخارجية، إلا أن BBC نقلت عن ترامبقوله مؤخرًا أن كلًّا من روسيا والصين تعتبران التهديد الأكبر للولايات المتحدة، وقال إنه يجب خلق الفرقة بين بعضهما البعض. ومن المتوقع أن يسعى ترامب إلى الحرب مع الصين من خلال تعميق الخلاف ما بين الصين وتايوان، تمامًا مثل ما قاد الحرب ضدّ روسيا من خلال تشجيع أوكرانيا وتسليحها وإعطائها الضوء الأخضر تلو الآخر كي تتعمق باستخدام الأسلحة الأميركية في مناطق كانت محظورة على أوكرانيا في بداية الحرب.
عادة ما يُعَيَّن لرئاسة الدبلوماسية في الخارجية الأميركية أشخاص عملوا في منصب مستشار الأمن القوميّ الأميركي، فهي سياسة مرتبطة بالأمن القوميّ في الولايات المتحدة، أي أنها سياسة توضع من قبل النظام العميق في أميركا. وبات الأميركيون اليوم يخشون من سياسة ترامب و”علاقات الصداقة”، التي يقال بأنها تربطه بفلاديمير بوتين رئيس روسيا، وأنه بدعم من الأخير استطاع الفوز بالانتخابات عام 2016، والتسبب بخسارة هيلاري كلينتون، ولكن في الحقيقة أن ترامب ربح الانتخابات: أولًا، لأنه يجسد الحلم عند الرجل الأبيض الأميركي. وثانيًا، وهو الأهم أنه وضع توقيتًا لسحب الجيش الأميركي من أفغانستان بعد الضربات المتتالية والقاتلة التي تعرض لها، وتم فعليًا الالتزام بذلك.
منذ ساعات تمت إدانة ترامب بعدد من القضايا، ولن يتم إصدار الحكم في هذه القضايا حتّى تموز/ يوليو القادم، وبحسب الإشارات المرسلة فإن ترامب سيُلزم بدفع غرامة مالية، لأنه مبدئيًا وكرئيس سابق للولايات المتحدة، يحق له تأمين حمايته من قبل الشرطة السرية، ويعتبر ذلك أمرًا مكلفًا وصعبًا إذا ما تم وضع ترامب في السجن. وهذا يعني أنه سيتمكّن من الاستمرار بحملته الانتخابية. وترامب يواجه 34 تهمة، وجميعها تهم لا علاقة لها بسنيّ وجوده في البيت الأبيض. إلا تلك التي تم اتهامه فيها بدعم الذين هاجموا مبنى الكابيتول، لأن معظم السياسيين اعتبروا أن ترامب يشجع على العصيان، وهو كان قد اتّهم بايدن بتزوير الانتخابات. وأما التهمة الثانية، فهي احتفاظه بوثائق سرية في بيته، ولكن المفارقة أن بايدن كان يحتفظ بوثائق سرية ولم تتم محاكمته بشأنها أو توجيه الإتهامات له، لأنه “نسي وجودها”.
الوثائق التي احتفظ بها بايدن، نقلها إلى بيته في “ديلاوير” خلال وجوده كنائب لباراك أوباما في البيت الأبيض. 24 تهمة يلاحق بها ترامب اليوم، كان من الممكن أن تبقى طي الكتمان للأبد لو تنازل عن حقه بالترشح، ولكن يبدو أن إصراره على المضي بقرار الترشح وهزيمة بايدن والسياسيين الحاليين سواء كانوا جمهوريين أم ديمقراطيين يجعل مذاق العلقم يزداد مرارة في حلوقهم وهم يرونه يحصد دعم وثقة الأميركيين، حتّى قبل أن يبدأ تراجع الثقة ببايدن بسبب المواقف التي اتّخذها بما يتعلق بقضية غزّة ودعم المجازر الصهيونية فيها من تحت الطاولة.
في كلّ الأحوال، سواء وصل ترامب أم بايدن إلى الحكم، فإن الصراع سيبقى أميركيًا أميركيًا، ولو أراد الأميركيون كشعب فعليًا اتّخاذ موقف مناوئ لدعم دولتهم للكيان المارق في فلسطين لكان القرار والتصويت في مكان آخر خارج سلطة الأحمر والأزرق. إيلون ماسك يعتبر أن ما يحدث مع ترامب ومحاولة عزله حتّى لا يصل إلى الانتخابات، أمرًا خطيرًا، لأنه يقوض العملية الديمقراطية والتي تمنح الشعب الأميركي الحرية بانتقاء رئيسه. مع أن العملية الديمقراطية الأميركية كانت وما زالت تتعلق بصورة الشخص الذي يحكم أميركا، وبتبديل اسمه، ومؤخرًا لونه، دون أن يؤثر ذلك في الخطة الموضوعة لسياسات أميركا الخارجية والداخلية, من قبل النظام العميق فيها، ولو قيد أنملة.
المصدر : العهد الاخباري