ضربة إيران كسرت قواعد الردع.. والوجود الإسرائيلي على المحك
أدخل العدوان الثلاثي الذي شنَّته كلّ من بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” على مصر في شهري تشرين الأول والثاني من العام 1956 منطقة ما يسمّى “الشرق الأوسط” في طور جديد من التشكيل الجيوسياسي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية من تقاسم القوى الكبرى لدول المنطقة،. وشكّل العدوان تجربة مختلفة في نتائجها عمّا رست عليه الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى في العام 1948 من زرع للكيان الصهيوني في قلب العالم العربي على أرض فلسطين؛ فقد قاد الرئيس المصري جمال عبد الناصر معركة جريئة تحت عنوان تأميم قناة السويس وتحريرها من الهيمنة البريطانية – الفرنسية، إلا أنه خرّب أيضًا المشروع الصهيوني في فتح الطريق البحري إلى إيلات عبر خليج العقبة، واعتمد في هذه المعركة – إلى جانب العامل العسكري – على عنصر التنافس السوفياتي – الأميركي المحموم سعيًا للسيطرة على المنطقة بدلًا من القوى الاستعمارية التقليدية للدول الأوروبية.
مصر عبد الناصر
كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في محور المجريات الميدانية والسياسية، بل كانت الشرارة الأساسية التي أشعلت فتيل الحرب، حيث كان عبد الناصر قد اشترط عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم لإتمام أي تسوية، والجلاء عن جنوب صحراء النقب سعيًا لضمان حدود متجاورة بين مصر والأردن. أما الحلف الثلاثي الإسرائيلي – الأوروبي – الأميركي فقد كان يسعى لإرساء التسوية بين العرب و”إسرائيل” وتثبيت دعائم “حلف بغداد” وصولًا إلى وضع سدّ أمام النفوذ السوفييتي في المنطقة؛ وكانت باريس حاقدة على مصر لدعمها الثورة الجزائرية ضدّ الاحتلال الفرنسي وكفّ يدها عن إدارة قناة السويس، فجهّزت “إسرائيل” بكلّ الإمكانات العسكرية والسلاح المتطوّر، أما بريطانيا فكانت تتحيّن الفرص للقضاء على عبد الناصر لرفضه “حلف بغداد” ومعارضته لانضمام أي طرف أجنبي في حلف عربي.
أين دول الطوق؟
بدأت “إسرائيل” بالضربة الأولى، ولكن سرعان ما بان قصورها عن الحسم لتدخل بريطانيا وفرنسا بشكل مباشر في الحرب التي انتهت بإخفاق العدوان الثلاثي في تحقيق أهدافه. إلا أن التداعيات التي أعقبت وقف النار استحضرت الولايات المتحدة الأميركية إلى خارطة القوى المهيمنة الطاغية في المنطقة، فنصّبت نفسها حامية لـ”إسرائيل” وحليفًا استراتيجيًا لها. أما أوروبا، فتولّت مهمّة حراسة المصالح الأميركية، وكان من نتائج ذلك تحوّل معظم ما كان يسمّى بـ”دول الطوق”، والتي وقف بعضها إلى جانب عبد الناصر في الحرب، إلى دول مطبّعة وحليفة للكيان المؤقت، فلم تعد فلسطين بالنسبة لهؤلاء تمثّل أولوية القضية العربية والإسلامية، وهذا ما برز واضحًا في محطتين مفصليتين، الأولى: معركة “طوفان الأقصى”، والثانية: عملية “الوعد الصادق” التي نفذتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية ردًا على اغتيال قادتها في القنصلية الإيرانية في دمشق.
معركة بين مشروعين
لم يمض الكثير من الزمن على العدوان الثلاثي الذي ما زالت تجربته ونتائجه ماثلة للعيان والعبرة، ولئن حافظت أطراف العدوان على هويتها وأهدافها إلا أن المختلف في تشكيل الأحلاف هو في نشوء محور المقاومة الذي كرّس فلسطين ساحة موحّدة في مواجهة الحلف الغربي – العربي، لتصبح المعركة بين مشروعين لا تجمعهما أي ميزة التقاء، بل كلّ ما بينهما يحمل صفة الإلغاء الكامل والحتمي، كما أن المختلف في سيرورة المحطات هو تبدّل عناصر المعادلة بشكل جوهري ربطًا بالجبهات المفتوحة والناشطة على المستويين السياسي والعسكري وما تفرزه نتائج المواجهة على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، والأثر هنا مرتبط حصرًا بالكيان المؤقت الذي يعيش خطرًا حقيقيًا يهدّد وجوده واستمراريته.
خلاصات وجودية
وبعيدًا عن الخلاصات العسكرية التي يعنى بها أهل الاختصاص في تقويم خسائر العدوّ الصهيوني نتيجة ضربة “الوعد الصادق” الإيرانية، تبرز مجموعة من المعطيات وأهمها:
– استمرار القصور الإسرائيلي عن المواجهة المنفردة، على الرغم من عسكرة المجتمع الصهيوني والتسليح الأميركي والغربي الهائل، والارتهان للدعم الأميركي الدائم والتدخل الغربي المباشر.
– انكشاف المنشآت الرئيسية والمواقع العسكرية والسياسية والمراكز الحيوية أمام إمكانية الاستهداف المباشر دون القدرة على حمايتها من الصواريخ والمسيّرات البعيدة المدى.
– السقوط المتدحرج لجيش “الأسطورة” وتفوّقه المزعوم، وفشله في كسر شوكة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة على الرغم من محاصرته وعزله، في ما لا يجد حلًا للاستنزاف القاسي الذي تفرضه المقاومة الإسلامية على جبهة لبنان، في ما صواريخ المقاومة العراقية و”أنصار الله” تطال عمق كيانه.
– انهيار منظومة الردع الوهمية التي كان يتباهى بها قادة “إسرائيل”، فقد كسرت إيران بضربتها النوعية القواعد التي فرضها العدوّ على مدى عشرات السنوات، وأثبتت أنها قادرة على الرد في المكان والزمان اللذين تختارهما لمعاقبة “إسرائيل” على اعتداءاتها وبالكيفية التي تراها مناسبة.
– تعميق الأزمة الداخلية داخل كيان العدوّ بعدما أيقن المجتمع الاستيطاني عجز هذا الكيان عن ضمان الحماية له، فاندفع أفراده إلى الهجرة المعاكسة بحثًا عن الأمن في الأماكن التي استقدموا منها.
المصير الحرج
وتطرح هذه المعطيات وغيرها أزمة عميقة لدى دوائر التخطيط الاستراتيجي داخل الكيان المؤقت، وتدفعها للبحث في وضع فرضيات سياسية وأمنية وعسكرية جديدة، لا سيّما أن محور المقاومة قد نجح في تضييق الخناق أكثر فأكثر على الوجود الإسرائيلي المصطنع إلى درجة تهديد مصيره بإمكانية البقاء، ولعلّ أحد أهم الخلاصات التي توصل إليها مخطّطو الاحتلال تجلّت في الإحجام الأميركي والبريطاني والفرنسي عن التدخل المباشر خوفًا من المواجهة ضدّ إيران والذهاب إلى حرب شاملة لا يمكن لأحد رصد نتائجها أو توقّع عواقبها ولذلك اقتصرت المشاركة فقط على محاولة منع سقوط الصواريخ الإيرانية، وهذا يعني في المنظور الإسرائيلي ضرورة إعادة الحسابات بشكل جذري وعدم المضي في مغامرات غير محسوبة، أما إذا استمر الحمق مسيطرًا على دوائر القرار الصهيوني فإن تجربة العدوان الثلاثي لن تتكرّر بمظهرها ونتائجها، فأحلاف الأمس ليست كأحلاف اليوم، فلا تسويات لدى محور المقاومة ولا مهادنة إلا بتحقيق النصر ولا شيء غير النصر.
المصدر: العهد الاخباري