مناهضة التطبيع مع سوريا… لتسهيله مع “إسرائيل”
لم يكن مستغرباً قيام مجلس النواب الأميركي مؤخراً بإعادة طرح مشروع “مناهضة التطبيع مع الأسد”، ومن ثم تمريره ليصبح قانوناً، ذلك أن حرب الإبادة التي تشنها “إسرائيل” على قطاع غزة، وما أفضت إليه من تطورات ومتغيرات إقليمية ودولية، عززت العداء الأميركي لدمشق والرغبة في معاقبتها أكثر، باعتبارها جزءاً من محور بات يهدد فعلياً وجودها ومشروعها الواسع في المنطقة، بدليل الاستهداف الواسع للقواعد الأميركية العسكرية في كل من العراق وسوريا والأردن، ومهاجمة سفنها في البحر الأحمر من قبل القوات اليمنية.
وبطبيعة الحال، فإن ذريعة تشديد العقوبات على دمشق تبدو جاهزة، وهي حماية المدنيين السوريين الذين أثبت التجربة المباشرة منذ العام 2011 أنهم الأكثر تأثراً سلباً بجميع أشكال العقوبات التي فرضها الغرب.
في مقاربة خلفية القانون الأميركي الجديد وأهدافه الحقيقية، يمكن التوقف عند أمرين: الأول سياسي لا يتعلق بالعلاقات السورية – الأميركية فحسب، إنما بالمشروع الأميركي في المنطقة عموماً، وتحديداً ما يتعلق بجهود التطبيع بين “إسرائيل” وبعض الدول العربية، والأمر الآخر اقتصادي يتمثل في التداعيات والتأثيرات الاقتصادية المباشرة في حياة السوريين من جراء تطبيق هذا القانون.
منعه مع سوريا… ودفعه مع “إسرائيل”
تتزامن موافقة مجلس النواب الأميركي على القانون المذكور مع جهود أميركية تبذل على أكثر من صعيد، غايتها المحافظة على فرص تحقيق تطبيع للعلاقات بين “إسرائيل” والدول العربية ودمجها تالياً في المنطقة، وهذا ما أشار إليه صراحة وزير الخارجية أنتوني بلينكن أثناء مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن، إذ أكد أن هناك “فرصة استثنائية” في الأشهر المقبلة لدمج “إسرائيل” في المنطقة مع رغبة الدول العربية في تطبيع العلاقات معها، مضيفاً: “تقريباً، كل دولة عربية الآن تريد حقاً دمج إسرائيل في المنطقة لتطبيع العلاقات… لتقديم التزامات وضمانات أمنية حتى تشعر إسرائيل بمزيد من الأمان”، ومثل هذا المشروع يتطلب بحسب التسريبات الأميركية العمل على محورين:
– الأول استمرار الحوار مع بعض الحكومات العربية المرتبطة بعلاقات جيدة مع واشنطن لتذليل الصعوبات التي تعوق توسيع عملية التطبيع في مرحلتها الثالثة، والتي بدأت تقريباً قبل 3 سنوات مع توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية للسلام.
لهذا، تحرص الإدارة الأميركية على الإيحاء بأن فرصة التطبيع لم تضِع رغم حرب الإبادة التي تشنها “إسرائيل” على سكان قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، لكن بيان وزارة الخارجية السعودية التي صدر في أعقاب تسريبات إعلامية أكد أن المواقف لا تزال متباعدة جداً، فالمملكة ربطت بوضوح بين التطبيع وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967، وهذا بخلاف ما نقل إعلامياً عن إمكانية قبول الرياض بالتزام سياسي من تل أبيب بإقامة دولة فسطينية.
– المحور الثاني يتجه نحو محاصرة و”خنق” الدول والجهات المعارضة للتطبيع مع “إسرائيل” من قبيل إيران وسوريا وفصائل المقاومة الموجودة في كل من: لبنان، العراق، فلسطين المحتلة، واليمن. وفرض العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية يشكل أحد أوجه الحصار التي تعمل واشنطن على اتباعها في التعاطي مع ما تعتبره “تهديداً” لمصالحها وللأمن الإسرائيلي.
لذلك، إن قانون “مناهضة التطبيع مع الأسد” الذي جرى إظهاره كتعبير عن الاستجابة الأميركية لمطالب تنظيمات “سورية معارضة” في الخارج لا يخرج عن هذه الغاية، والدليل أن إدارة ترامب لم تتردد في مرحلة ما في محاولة فتح قنوات اتصال مع الحكومة السورية. كما أن أي إدارة أميركية ستكون مستعدة لمسح جميع عقوباتها عن سوريا إذا ما قبل الأسد بالتطبيع مع “إسرائيل” وفق شروط الأخيرة.
من هنا، فإن توقيت إعادة إحياء مشروع القانون المذكور والموافقة عليه كان موجهاً لتحقيق غايات عدة، ليس من بينها غاية واحدة تعبر أو ترتبط بمصالح الشعب السوري ومستقبله كما ادعت الأطراف التي كانت في واجهة الترويج لمشروع القانون وتسويقه داخل دوائر السياسة الدولية.
المزيد من الجوع للسوريين
يضيّق القانون الجديد الخناق على معيشة السوريين من خلال فرضه مزيداً من العقوبات الاقتصادية وتوسيع عقوبات أخرى كان قد تضمنها قانون قيصر الذي دخل حيز التنفيذ في منتصف العام 2020، وهي إجراءات من شأنها عرقلة جهود الحكومة السورية في تأمين وتلبية احتياجات شعبها، ومحاولتها إعادة إصلاح وتأهيل المنشآت والمرافق الخدمية والإنتاجية التي دمرتها الحرب، ومنع الحكومات والشركات العربية والأجنبية من التعاون الاقتصادي والتجاري مع المؤسسات السورية في قطاعات ومجالات عدة ترتبط بشكل مباشر بمعيشة السوريين. (انظر الميادين مشروع “مكافحة التطبيع مع الأسد: “ألم يمت السوريون بعد؟“.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، شكل قانون “قيصر” الأميركي سبباً رئيسياً ومباشراً في تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وهذا باعتراف المسؤولين الأميركيين أنفسهم، ففي شهر حزيران من العام 2020 قال المبعوث الأميركي إلى سوريا السفير جيمس جيفري “إن الإجراءات والعقوبات الأميركية ساهمت في تدهور قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي”.
وكما هو معلوم، فإن تدهور قيمة العملة الوطنية لأي دولة من شأنه أن ينعكس سلباً على معيشة السكان والأوضاع الاقتصادية عموماً، فكيف الحال مع بلد يعاني تأثيرات حرب كارثية مستمرة منذ 13 عاماً، واحتلالاً أجنبياً لثرواته النفطية والزراعية، وحصاراً خارجياً تطال تأثيراته حتى الغذاء والدواء؟
وبناء على النص المتداول للقانون الأميركي الجديد، فإن تطبيقه ستكون له انعكاسات سلبية عديدة على معيشة السوريين الذين يعيشون في الداخل على اختلاف مواقفهم السياسية، والذين يدركون ذلك جيداً. ومن بين تلك الانعكاسات، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
– ارتفاع تكاليف المستوردات السورية نتيجة زيادة العوائق التي سوف تواجهها مجدداً، وتالياً زيادة معدلات الغلاء والتضخم في الأسواق المحلية على امتداد الجغرافيا السورية، وليس فقط في المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة السورية.
– عرقلة مشاريع التعافي التي تعمل عليها منظمات أممية ودولية في سوريا، الأمر الذي سوف ينعكس أثره على حياة آلاف الأسر ومئات التجمعات السكنية المستفيدة من هذه المشروعات، سواء بالحصول على الخدمات أو المساعدة على توليد فرص عمل.
– عرقلة عمل المؤسسات الأهلية والمدنية العاملة في البلاد وفي مجالات متعددة تمتد من العمل الإغاثي إلى العمل الإنمائي والتنموي، نتيجة تراجع مصادر التمويل وعدم القدرة على إبرام عقود خارجية لتوريد بعض الاحتياجات الأساسية وغير ذلك.
– الإضرار بالمؤسسات الاقتصادية الحكومية والخاصة التي تعمل في المجال المدني وغير المرتبطة بأي أنشطة عسكرية، كمؤسسات الطيران والبناء والطاقة وغيرها، وهذا يعني تهديد مصادر آلاف العاملين وتعطيل مصالح المواطنين وحصولهم على خدمات تلك المؤسسات التي يقدم جزء كبير منها خدمات مدعومة للسوريين.
– زيادة مشكلة حوامل الطاقة في سوريا وما يعنيه ذلك من التسبب بشلل كبير للقطاعات الخدمية والاقتصادية، وللسوريين عموماً، الذين لا يحصلون في أفضل الحالات على 2-4 ساعات تغذية كهربائية يومياً.
– تعرض سعر الصرف لمزيد من التقلبات والتذبذب لتكون النتيجة مزيداً من التدهور الاقتصادي في عموم أرجاء البلاد، وارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي، التي وصلت، بحسب بيانات المنظمات الأممية العاملة في سوريا، إلى مستويات خطيرة.
المصدر: الميادين