الأميركي الرهينة
“على الأميركيين أن يعلموا أنه إذا دفعوا لبنان إلى الفوضى، وتألم الشعب اللبناني، فهذا يعني أننا لن نجلس ونتفرج على الفوضى، وسنمدّ يدنا إلى من يؤلمكم، حتى لو أدى ذلك إلى خيار الحرب مع ربيبتكم إسرائيل”.. كانت تلك الجملة في خطاب الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، في عزّ اشتعال معركة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، أو ما يعرف أكثر باسم “معركة كاريش”.
ببساطة، والحدث قريب لا يحتاج جهد التذكر وإعادة الطرح، فإنّ سماحة سيد الوعد الصادق، وفي قلب المعركة الساخنة وقتذاك، قد حوّل كيان العدو من “سلاح أميركي في قلب المنطقة” إلى رهينة ثمينة ستكون أول قطاف الحرب الكبرى. وقف السيد في خطاب ذكرى القادة الشهداء في 16 شباط 2023، يرسم قواعد جديدة للعالم العربي مع الحدود والتضاريس، أول ما فيها أن أي فعل أميركي له ثمن هائل، وأن المقاومة قادرة في أي لحظة على تدفيع الأميركي فواتير الدم كلها، قديمها وجديدها، دفعة واحدة، لا تتصورها خططهم وأبحاثهم ومراكز صنع قرارهم.
كان سماحة السيد-ـ وما يزال-ـ أمينًا على الوعد وعلى مسؤولية الأمة كلها، وليس عن لبنان فقط، وكان يدفع بفكرة “كسر الهيمنة الأميركية” في المنطقة كلها لتكون “هدفًا ساميًا” أمام العقول، وهو أبدًا لم يتراجع أمام ضغط أو تهديد أميركي، المعلن أو الخفيّ، لكنه كان يتحرك إلى حيث ينبغي للإنسان المؤمن الحقيقي أن يكون، على خط المواجهة وأمام اختبار النار، ثم جاءت اللحظة الحاسمة عقب معركة “طوفان الأقصى” العظيمة، لتدخل المقاومة اللبنانية إلى جبهة القتال في اليوم الثاني للحرب، 8 تشرين، وتبدّد كل ما كان باقيًا من أوهام “الهيبة الأميركية” التي توحي للغالبية من شعوبنا ولكل حكامنا بالاستسلام الفوري غير المشروط أمام إرادة واشنطن، وحتى رغباتها.
لم تكن بركات “الطوفان” قاصرة على جبهة واحدة أو اثنتين، بل دخل محور المقاومة بأكمله في صراع مشتعل ضد الكيان وضد أم الإرهاب أميركا، ليثبت قولًا وفعلًا أنه الرد التاريخي على هذا العلو والطغيان الأميركي والغربي غير المسبوق في التاريخ على شعب غزة الصامد، دخل اليمن طرفًا أصيلًا في الحرب، دخل وهو يحمل لائحة الأهداف ذاتها، وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة، ومضى إلى طريق جديد ــ لم يكن أكثر المتفائلين يتصوّرونه ــ حتى جاءت ذروة فعله الإيماني القادر العزيز نهاية الأسبوع الفائت، في معركة اشتباك مع الأسطول الأميركي في خليج عدن، ليسقط القرد الأميركي من على الشجرة، ويكشف للعالم كم أن هذه القوة تافهة إذا ما دخلت حرب إرادة حقيقية، لا يصمد في ساحاتها إلا الرجال.
كذلك جاءت الضربة العراقية المباركة والعظيمة على قاعدة التنف، مخلفة 34 جريحًا و3 قتلى، وفقًا للأرقام الأميركية، وهي كالعادة كاذبة تحاول أن تداري فضيحتها وهزيمتها وستر الصاعقة التي ضربتها فعلًا، من العراق بالذات جاءت أثقل ضربة على الأميركي، ومن العراق يبدو أن هروب الجيش الأميركي من فيتنام وأفغانستان سيبدو باهتًا جدًا وكريمًا جدًا جدًا، بالنسبة إلى ما سيحدث لهم هذه المرة على الأرض العربية، في سوريا والعراق.
الضربة العراقية المباركة جاءت في وقت ليس هناك أفضل منه بالنسبة إلى محور المقاومة، وضع عالمي مكشوف للولايات المتحدة، تبدو فيه “بلطجي العالم”، الذي لا يأبه لقانون أو حقوق، وهو كان كذلك على الدوام، لكنه في الوقت الحالي بدأ بحصد الكراهية خارجيًا، مع دخوله في عام انتخابات رئاسية ساخنة ستمزق ما شاء الله أن تمزق من وحدته وتفرق جمعه ورأيه، وداخليًا تأتي في أعقاب أزمة عنيفة تضرب العلاقة بين الولايات ذاتها، بداية من ولاية تكساس -أهم وثاني أغنى الولايات-ـ بسبب الهجرة، وارتفاع درجة التناحر بين الأحزاب إلى درجة إرسال الولايات التي يحكمها الجمهوريون لقوات الحرس الوطني لدعم تمرد تكساس على المحكمة العليا الأميركية والرئيس المرتعش جو بايدن.
الوجه الثالث للضربة العراقية الكريمة، هو أن العراق أُريد له بعد الغزو الأميركي في 2003، وقبله الحصار الطويل منذ 1991، أن يكون مثالًا حيًا على الخروج عن طاعة واشنطن، مع كل ما قدمه صدام حسين من خدمات للأميركي، فإنه حين تصور نفسه بطلًا يستطيع أن يأخذ مكافأته، قلبت له واشنطن ظهر المجن، وأرته من العقوبات والعدوان أصنافًا، ثم جرّته من حفرته، وأعدمته في ليلة يقدسها المسلمون، كي يكون العراق وصدام هما “الدرس الأليم والكابوس” للشعوب العربية والحكام العرب، ودخلت المنطقة مرحلة هي الأسود والأسفل في تاريخها بجملته، حيث مندوبو السفارات يحكمون رقاب عالم عربي باتساعه، ويدسّون أنوفهم في أي شيء وكل شيء.
المقاومة العراقية التي ولدت كالعنقاء الأسطورية من رماد الحرب الأميركية العدوانية، قد استطاعت أن تحوز – اليوم بالذات- أولى انتصاراتها الكبرى على الشيطان الأكبر، بعد 173 عملية هجومية مباركة على قواعد الاحتلال في سورية والعراق، وأن تستكمل أسطورة قهر الأميركي نفسه، بعد أن أطاحت بـ”دواعشه” قبل أعوام قليلة، بانتصار مذهل ولد من رحم المستحيل، وبإمكانات تحت الصفر، وهي اليوم حوّلت هذا الجيش المنفوخ كبالونة إلى رهينة تحت يدها، أكثر منها قوات احتلال مخيفة.
اليوم لن يكون الكلام صادقًا من دون التعطر بسيرة القادة الشهداء للمقاومة الإسلامية والعربية، القائد الحاج رضوان والقائد الحاج قاسم سليماني والقائد أبو مهدي المهندس، وألوف غيرهم من أشرف وأعز أبناء الأمّتين العربية والإسلامية، قدموا دماءهم الطاهرة خطوات على طريق تحرير القدس، وقفزات جبارة في قدرات المقاومة على الصمود والتحدي في وجه أعتى إمبراطوريات الشرّ التي عرفها التاريخ الإنساني، ودفعًا لفكرة “النصر” في أصعب أوقات المحن، ليس من الغريب أن يستحضر الذهن من دون جهد كلمة الشهيد الحاج رضوان “الهدف واضح ومحدد ودقيق، إزالة إسرائيل من الوجود” كنتيجة واقعية مجردة، بعد أن سقط جدار الأمن والحماية الأميركي، وفضح وتحطم، فالسلاح الأميركي- اليوم – وفي يد صانعيه، عاجز عن الدفاع عن نفسه وقواعده وجنوده، وهو في اليد الصهيونية المرتعشة أكثر ضعفًا وأقل تأثيرًا.
..
تحية عربية وإنسانية واجبة على كل حرّ، وكلمة تسد جزءًا ضئيلًا من دين “الحشد الشعبي” وموقفه النبيل، تحية لمن عرف أن القلّة المجاهدة الصابرة منتصرة، بوعد الله، فكان في أول الصفوف، تحية طيبة مباركة لمن فعلوا ما فعلوه قيامًا بحق الله في أخوانهم المستضعفين في غزة، تحية لمن لا يهابون شيئًا في طريق الله الحق، بالرغم من دمائهم السيالة منذ عقود، بتغطية عربية سافلة، ويخوضون مع حربهم الحالية نصال الخيانة ذاتها.. بوركتم وبوركت سواعدكم وقلوبكم.
المصدر : العهد الاخباري