منوعات

الضفة الغربية بعد 7 أكتوبر: استثمار الإنجاز وتجاوز العراقيل أمام مسار نضالي أوسع

بعد مرور أكثر من 100 يوم على حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وهي الحرب الأكثر بشاعة في القرن الـ21، يتساءل كثيرون عن ردّ الفعل الخاص بالفلسطينيين في الضفة الغربية، والكيفية التي يتفاعلون فيها مع الإبادة الجماعية الحاصلة في القطاع.

وعليه، سنحاول في هذه المادة قراءة الواقع المركّب الذي تعيشه الضفة الغربية بكل مكوّناتها منذ العقدين الماضيين بشكل موضوعي، من أجل تفسير الكيفية التي تفاعل ويتفاعل من خلالها فلسطينيو الضفة مع حدث عبور السابع من أكتوبر لعام 2023، بصفته حدثاً مفصلياً في تاريخ القضية الفلسطينية، ومن دون الوقوع في لغط المبالغات أو ثقافة اللوم والتخوين.

مرّت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية في فترة جمود في مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية، من جراء خلق الاحتلال الاسرائيلي حصاراً محكماً استهدف كل بؤر المقاومة الفردية والجمعية، عبر سياسة الاغتيالات ومصادرة الأسلحة والاعتقال لعناصر المقاومة وشبكاتها في كل مدن الضفة ومخيماتها.

تسبّب ذلك في غياب قسري للوجود الفلسطيني المسلّح المنظّم في الضفة، وقد استمر هذا الجمود حتى بداية عام 2014، حيث انتشرت العمليات الفردية، أو ما يُعرف باسم “انتفاضة السكاكين”، و”عمليات الدهس”، التي تراكمت وانتشرت وصولاً إلى تشكيل تنظيمات/ كتائب مسلحة تتمركز في المخيمات، وتحديداً مخيم جنين، الذي شكّل حالة استثنائية، وقد وصفه البعض بأنه “غزة الصُغرى”.

استمر المشهد لينتج عنه معركة سيف القدس لعام 2021 / هبة الكرامة، التي شكّلت مرحلة مفصلية في السياق المقاوم الخاص بالقضية الفلسطينية، وما زال الاحتلال ينتقم من الفلسطينيين حتى يومنا هذا، ليلاحق نتائجها وآثارها، وأهمها التحوّل الحاصل في الوعي الجمعي، والالتفاف حول ثقافة المقاومة، ودعم الشارع لفصائل المقاومة المسلحة، وأبرزها حركتا حماس والجهاد الإسلامي.

عامل آخر كان له الأثر في حالة الصمت/ التخدير التي عاشها معظم الفلسطينيين في الضفة الغربية منذ عقدين؛ باستثناء فئة قليلة بقيت تقاوم وقد تركّزت في المخيمات؛ وقد ساهمت المؤسسة الرسمية المتمثلة بالسلطة الفلسطينية بشكل أساسي في ترسيخه عبر فرض أنظمة مالية واجتماعية وسياسية تُفرّغ الأفراد من إرادتهم السياسية.

وعليه، تُعتبر لحظة السابع من أكتوبر لعام 2023 لحظة كاشفة لكلّ الأزمات على المستوى المجتمعي، التنظيمي والسياسي في القضية الفلسطينية، كما أنها تعتبر لحظة حُبلى بالكثير من التفكير والتأمل والتحولات على الكثير من الممارسات لفاعلين كثر في الساحة الفلسطينية خلال الفترة المقبلة، ومن هنا، تنكشف أهمية فهم الماهية التي يتحرك/ يصمت/ يخاف/ يشتبك بها الفلسطينيون الموجودون في مناطق الضفة الغربية المحتلة.

هناك مجموعة من التحولات التي لا بد من قراءتها لفهم طريقة انخراط وتفاعل الفلسطينيين في الضفة الغربية مع هذه اللحظة التاريخية، ولفهمها يمكننا الاعتماد على منطق التحليل التفصيلي/ المناطقي لمواقع ومناطق مختلفة في الضفة، وذلك انطلاقاً من وجود مشروعين مختلفين يسيران بالتوازي في الضفة الغربية. هذه القراءة ستمكّننا من محاولة خلق تصوّر أقرب للدقة لما يحدث على أرض الواقع، مع ضرورة التأكيد أنّ هذه المشاريع تتغيّر وتتحوّل في هذه اللحظة الحاسمة. أمّا في ما يتعلق بقطاع غزة، فبالإمكان قراءة خصوصية غزة كأرض محررة قادرة على العمل والنشاط بشكل مختلف ومنفصل عن الضفة.

وفي هذا السياق، تقول لينا ميعاري وهي أستاذة علم النفس ورئيسة نقابة العاملين في جامعة بيرزيت للميادين نت: “جاءت لحظة السابع من أكتوبر لتكشف عن حالة التفتيت الموجودة أصلاً للفعل التنظيمي المجتمعي العام، ليس فقط على مستوى النشاط والفعل الحزبي، ولكن أيضاً حتى على مستوى الفعل المجتمعي نقابياً وطلابياً ومؤسساتياً في الضفة الغربية بشكل عام، وفي مدينة رام الله على وجه الخصوص”.

تُجمل ميعاري التغيّرات الحاصلة بعد مرور ثلاثين عاماً على أوسلو، وما نتج عنها من تحوّل المشروع التحرري الفلسطيني من مشروع تحرير إلى مشروع بناء دولة ومؤسسات في ظل استمرار وتوسع الاستعمار، قائلة: “أصبحت هناك تحولات كبرى ليست فقط سياسية، فالحديث عن أوسلو بمنطق مشروع جاء كاستمرار وتوسّع للاستعمار الاستيطاني، يمكن لمس آثاره على عدة أبعاد: البعد الاقتصادي المتمثّل ببروتوكول باريس، والذي زاد من التبعية الاقتصادية، والبُعد الخاص بمشروع التنسيق الأمني، والبعد الخاص بالتحولات المجتمعية، كالتحوّل من العمل الجماهيري إلى عمل أكثر نخبوية، والتحوّل من العمل في منظمات جماهيرية إلى عمل بشكل مؤسسات أهلية، وحتى على مستوى الذات الفلسطينية، والتحول من القيم الجمعية والتضامنية والتضحية، إلى مفاهيم فردية وتفتيت المجتمع إلى أفراد، بمعنى زرع ثقافة العمل على المصلحة الفردية لا الجماعية.

ولفهم أكثر ماهية المشروعين الموجودين في الضفة الغربية، واللذين انكشفا بشكل واضح بعد السابع من أكتوبر، تقول ميعاري إن لحظة السابع من أكتوبر وضعت المجتمع الفلسطيني في مفارقة بين مشهدين فيهما الكثير من التناقض أحياناً، وفي الوقت ذاته هما ملتقيان. فعلى مدار عشرين عاماً، استطاعت غزة أن تُعد وتُراكم وتصنع القوة، متحدية “دولة” الاحتلال بكل قوتها العسكرية، وتمكّنت من تحريك كل العالم. يأتي ذلك مقابل ثلاثين عاماً من العمل على تفتيت المجتمع الفلسطيني داخل الضفة الغربية، وتفتيت التنظيمات، وتفتيت المؤسسات، وهدم سيرورة الوعي بكيفية مواجهة الاحتلال لدى الأفراد والجماعات.

في الوقت نفسه “جاء السابع من أكتوبر في مرحلة تحاول فيها الضفة أن تنهض من خلال بؤر المقاومة التي نشأت قبل طوفان الأقصى بعامين، فما بعد عام 2021  وتحديداً معركة سيف القدس، أصبحت هناك حالة مختلفة  في الشارع الفلسطيني، ولكنها لم تنضج لدرجة تستطيع فيها مواءمة نفسها مع حدث كبير مثل 7 أكتوبر”.

وهنا تفسّر لينا أبو الحلاوة، الصحافية والباحثة في الشأن الفلسطيني للميادين نت، حالة الانقسام التي حصلت في مجتمع الضفة الغربية بعد السابع من أكتوبر: “ما حصل بعد 7 أكتوبر في الضفة الغربية، أدّى إلى وجود انقسام داخل المجتمع نفسه، ما بين مجتمع مؤسسات جامعات ومدارس وكل ما يمكن حصره فيما يتعلق بشكل المجتمع الذي أفرزته السلطة الفلسطينية على وجه الخصوص، وهو منسلخ عن الحالة التي أسس لها السابع من أكتوبر، بينما هناك حالة مختلفة تماماً في مخيمات الضفة الغربية، تتحاور مع السابع من أكتوبر وتنسجم تماماً مع الحالة في قطاع غزة إلى أبعد حد، وذلك  لأنها بدأت بهذا التوجّه ما قبل السابع من أكتوبر، وهنا يمكننا أن نرى تعامل الاحتلال مع المخيمات، والذي يشبه تماماً طريقة تعامله مع قطاع غزة”.

وتُضيف أبو الحلاوة: “المشهد في الضفة الغربية ليس قاتماً للدرجة التي يمكن أن يتخيّلها الشخص إذا ما قارن غزة بالضفة، فالأمور تتدحرج وتتطور بطريقة غير متوقعة، كما أن هناك حالة انكشاف واضحة لحالة الزيف للخطاب الذي كان سائداً خلال السنوات الماضية، فهذا يساعد في تحريك حالة نضالية مختلفة”.

وتوضح أنّ “الحديث عمّا يحصل من بداية السابع من أكتوبر في الضفة الغربية من اقتحامات مستمرّة لمراكز المدن والمخيمات، وتكثيف سياسة الاغتيالات لبؤر المقاومة المتبقية في بعض مخيمات الضفة الغربية، أبرزها مخيم جنين ومخيم نور شمس في طولكرم، ومخيم عقبة جبر في أريحا، إلى جانب الاعتماد المباشر على أداة الاعتقال التي أسفرت عن وضع أكثر من 5 آلاف فلسطيني/ة داخل السجون منذ السابع من أكتوبر، يُعيدنا إلى أحداث الانتفاضة الأولى عام 1987 والثانية عام 2000، لكن يبدو أن شكل وأدوات الحالة التي تحصل اليوم مختلفة عما حصل سابقاً . إذ إنّ الخطأ في فهم أوضاع الضفة الغربية، ثمّ في تقييم الفعل النضالي فيها، ناجم عن الانطباعية المتورّطة في المقارنة، إمّا مع الانتفاضات السابقة، أو مع بنية المقاومة في غزة، من دون الالتفات للفروق الموضوعية في التاريخ أو في الجغرافيا”.

“عندما نقرأ حالة الضفة الغربية وطريقة تفاعلها مع ما يحصل في قطاع غزة، نعتقد أن الضفة الغربية تعيش حالة يمكن تسميتها بالحالة الانتفاضية. وهذه الحالة الموجودة في الضفة وإن كانت محدودة نوعاً ما، لها أسباب لعدم امتدادها في كل مدن الضفة، ولكن عدد الشهداء الذي وصل إلى 500 شهيد تقريباً داخل الضفة منذ بداية الحرب هو عدد كبير مقارنة بالانتفاضة الأولى، حيث بلغ العدد خلال العام الأول 450 شهيداً تقريباً”، يقول الأكاديمي والباحث السياسي الفلسطيني طارق مطر للميادين نت.

ويُضيف مطر: “أهم ما أحدثه السابع من أكتوبر في الضفة الغربية، هو قيامه بإطلاق المخيال للإنسان الفلسطيني، بمعنى أنه أعاد تحرير المخيّلة الفلسطينية بشكل يمكّنه من القدرة على تخيّل نفسه في المواجهة والمقاومة أمام المشروع الصهيوني. إذ إن عمليات القتل والقمع المستمرة والتي كانت موجودة على مدار الـ20 سنة الماضية، كانت تحاول إسكات هذا الوعي، ولكن حدث السابع من أكتوبر أعاد إفلات هذا الوعي من جديد”.

أمّا فيما يتعلق بالمقاومة المسلحة، وبالرغم من كل عمليات الإجرام والحملة الانتقامية التي مارسها الاحتلال ضد مخيمات الضفة، والتي تتشابه مع  العمليات العسكرية التي تُمارس على قطاع غزة، “إلا أنّ هذه المجموعات قادرة على أن تستمر، لأن استهدافها بدأ منذ سنوات وليس وليد اللحظة، لكنها مستمرة بالرغم من عمليات الاغتيال، وقادرة على إعادة إنتاج الفعل النضالي المقاوم المسلح.

هذا إلى جانب وجود تنظيمات خارج الضفة الغربية تحاول أن تُغذي هذه الحالة، وأبرزهم القيادي في حماس الشهيد صالح العاروري، والذي كانت له البصمة الأكبر عملياً في تغذية المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، ومن المؤكد أنه سيكون له خلف وامتداد، وهذا ما كشفت عنه حالة الإجماع التي شهدتها شوارع الضفة الغربية بعد اغتيال العاروري، وقد عبّر عنها الفلسطينيون بالهتافات المؤيدة لنهج العاروري”، وفق مطر.

لا شك أن أشكال الحروب في فلسطين مختلفة، فما يحصل في قطاع غزة من تطهير عرقي وإبادة جماعية تقوم بها آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية، توازيها بشكل آخر حرب أخرى تحصل في مناطق الضفة الغربية، وفي الحالتين، يدفع الفلسطيني الثمن الأكبر من التضحيات والألم والقهر. يأتي ذلك بالتزامن مع تسليط الإعلام الإسرائيلي في نقاشاته الأخيرة الضوء على التطورات في الضفة الغربية، وذلك على خلفية تحذير وُجّه لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو من خطر اندلاع مواجهة هناك.

المصدر : الميادين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى