حول العالم

“ميديا بار”: دعوى جنوب أفريقيا في “العدل الدولية” انقلاب جيوسياسي ضد الغرب

تناول الكاتب إدوي بلينيل في موقع “ميديا بار”، الطلب الذي تقدّمت به جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة ضد “إسرائيل” بشأن “طبيعة الإبادة الجماعية” لحربها ضد الفلسطينيين في غزّة ليس مجرّد حدث قانوني غير مسبوق، إنّه يُمثّل انقلاباً جيوسياسياً  ضدها.

وفي ما يلي النص منقولاً إلى العربية:

تُطالب أوروبا وصورتها في أميركا الشمالية بعالمية حقوق الإنسان، وهو ما ظّلت أفعالهما تتناقض معه. وفي مواجهة تقاعسهم عن العمل في مواجهة تدمير “إسرائيل” لفلسطين، فإنّ جنوب أفريقيا هي التي تُدافع اليوم عن هذه العالمية.

إنّ الطلب الذي تقدّمت به جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة ضد “إسرائيل” بشأن “طبيعة الإبادة الجماعية” لحربها ضد الفلسطينيين في غزّة ليس مُجرّد حدثٍ قانوني غير مسبوق. إنّه يُمثّل انقلاباً جيوسياسياً: فبينما تلاحظ جميع شعوب العالم، من خلال المأساة الفلسطينية، الهندسة المتغيرة لاستخدام أوروبا والولايات المتحدة الأميركية للقيم العالمية التي يدعون إليها، فهي (إسرائيل) ترمز إلى القضايا التحررية للعالم الثالث، المناهضة للاستعمار والعنصرية، التي تحمل الشعلة.

ما عليك سوى قراءة الوثيقة الاستثنائية التي أنتجتها دبلوماسية جنوب أفريقيا والاستماع إلى العرض الذي قدمته، الخميس 11 كانون الثاني/ يناير الماضي، حول حججها أمام محكمة العدل الدولية لتقييم الكسوف الفكري للقارة، دولنا القومية، التي تزعم  منذ فترةٍ طويلة أنّها تتحدث وتقنن وتفرض الخير والعدل والحق.

لأنّهم، في الوقت الحقيقي، وتحت أنظار العالم أجمع، وفي مواجهة استشهاد غزّة، لم يقولوا شيئاً – أو القليل جداً: بعض الدعوات المنافقة لضبط النفس – ولم يفعلوا شيئاً – أو ما هو أسوأ من ذلك: فعلوا العكس تماماً. لقد قامت بتسليم الأسلحة والذخائر إلى “إسرائيل” على نطاقٍ واسع وفي الآونة الأخيرة فقط، كما فعلت الولايات المتحدة.

لا شيء يُقال ولا يُفعل عندما يتعرض سكان إحدى أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم لهجوم من قبل أحد أقوى جيوش العالم، إلى حملة القصف الأكثر كثافة في التاريخ العسكري الحديث.

العقوبة العشوائية

من خلال تصرّفات “جيشها”، وكذلك من خلال تصريحات قادتها، فإنّ هذا هو بالفعل الشعب الذي استهدفته “إسرائيل” في ردّها الانتقامي على هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 الذي نفّذته حماس، وبعيداً عن كونها متناسبة أم لا، فهي عقوبة عشوائية تمّ تنفيذها ضد السكان بسبب أصلهم وهويتهم وثقافتهم وتاريخهم.

إنّ الشعب الفلسطيني في غزّة، ومن خلاله، فكرة فلسطين القابلة للحياة، حياة ووجود تحت هذا الاسم، مع ما تحمله من التواصل الاجتماعي والمواطنة، هو الذي تمّ تصنيفه على أنّه الجاني الذي احتاج إلى العقاب دون أيّ تمييز. وهذا صراحةً في اليوم الأول، عبر صوت رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو نفسه، يدعو إلى الجهاد من خلال الإشارة إلى عماليق، هذا الشعب الذي أمر الله به في الكتاب المقدس (1 صموئيل 15: 3). “لا تعف عنها، بل تقتل الرجال والنساء والأطفال والرضع والبقر والغنم والجمال والحمير”.

وفي غضون ثلاثة أشهر فقط من الحرب، سقط بالفعل عشرات الآلاف من “القتلى” (الشهداء) والمفقودين والجرحى، معظمهم من المدنيين، وأغلبهم من الأطفال والنساء. لقد تمّ تدمير عالم بأكمله إلى الأبد، المنازل والمستشفيات وأماكن الحياة والعبادة والمدارس والجامعات والإدارات والمتاجر والآثار والمكتبات وحتى المقابر.

“لا يوجد مكان آمن في غزّة”، لم يتردد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس في التأكيد في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2023 في رسالته الرسمية إلى مجلس الأمن.  ومنذ ذلك الحين، واصلت المنظمات الإنسانية غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة التحذير من المياه الملوثة، وخطر المجاعة، والفقر الذي لا يقاس، واليأس اللامتناهي، وباختصار التدمير الذي لا رجعة فيه لجزء من فلسطين المحتلة.

انقلاب مشؤوم: “إسرائيل” التي ارتكزت شرعيتها في البداية على الوعي بجريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها النازية وحلفاؤها ضد اليهود، تُواجه اليوم تهمة إعادة إنتاجها ضد الفلسطينيين. وفي اتفاقية عام 1948 التي استندت إليها جنوب أفريقيا، تُشير جريمة الإبادة الجماعية إلى الأفعال “المرتكبة بقصد التدمير، كلياً أو جزئياً، لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه”. وقد عرّفها رافائيل ليمكين، مخترع الكلمة – من اللفظين اليونانيين genos و cide اللاتينيين – بأنّها “مؤامرة تهدف إلى إبادة أو إضعاف الجماعات القومية أو الدينية أو العرقية”.

سيتم إجراء النقاش القانوني حول موضوع الدعوى، ولكن في المستقبل القريب – وهذا هو التحدّي المتمثل في إجراء الطوارئ أمام محكمة العدل الدولية – يتعلق الأمر بوقف عملية الإبادة والتطهير والطرد والمحو بأسرع ما يمكن. وتدمير الفلسطينيين في غزّة الذي له خصائص الإبادة الجماعية.

وكما تذكرنا عمليات الإبادة الجماعية التي ارتكبت في رواندا عام 1994 وفي البوسنة عام 1995 بشكل مأساوي، فإنّ هذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال أن نضع في الاعتبار تفرد المحرقة، تلك الخطة التي دبّرها النظام النازي للإبادة الصناعية لملايين البشر. وينبغي للكائنات أن تُحافظ على اليقظة العالمية إزاء تكرار هذه الجريمة الشنيعة التي ترتكبها الإنسانية ضد نفسها في سياقات أخرى وبأشكالٍ مُختلفة.

لكن التاريخ سيذكر أنّ القوى التي تُجسّد الغرب، هذا الواقع السياسي الذي ولد من إسقاط أوروبا على العالم، على الرغم من أنّها تتباهى بإعلان عالمية ومساواة الحقوق، أفلتت من هذه اليقظة بترك فلسطين لمصيرها المحزن. ومن خلال جرأة جنوب أفريقيا، فإنّ الشعوب والأمم التي عانت من هذا الاستيلاء المُسيطر على العالم من قبل القوى الغربية هي الآن أفضل المدافعين عنها. وهو ما يُذكر أوروبا باختصار بالوعد الذي نكثته.

وكتب فانون في ختام كتابه الأول “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” (1952): “هل يُسمح لي باكتشاف الإنسان ورغبته أينما كان”، حيث أشار إلى هذا التحذير من أستاذ الفلسفة، من أصل هندي غربي: “عندما تسمع أشياء سيئة عن اليهود، قم بوخز أذنيك، الناس يتحدثون عنك”، مع هذا التعليق: “معاداة السامية هي بالضرورة كارهة للزنوج”، في بداية أحد الفصول، وضع كلمات إيمي سيزير هذه: “لا يوجد في العالم رجل فقير مشنوق، فقير معذب، لا أتعرض فيه للقتل والإذلال”.

إنّ القانون الدولي هو الترجمة القانونية لهذه النزعة الإنسانية الأساسية. إنّها النزعة الإنسانية التي أشار إليها فانون بغضب، بعد عقد من الزمن، في الحروب الاستعمارية الفرنسية، من فيتنام إلى الجزائر، والتي أنكرتها أوروبا.

“دعونا نغادر”، كتب في “معذبو الأرض”، هذه أوروبا التي لا تتوقف أبداً عن الحديث عن الإنسان بينما تذبحه أينما التقت به، في كل زاوية من شوارعها، في كل ركن من أركان العالم. […] لقد رفضت أوروبا كل تواضع، كل تواضع، ولكن أيضاً كل رعاية، كل حنان. لقد أظهرت فقط أنّها بخيلة مع الإنسان، تافهة، آكلة اللحوم، وقاتلة مع الإنسان فقط. لذا، أيها الإخوة، كيف لا يمكننا أن نفهم أنّ لدينا أشياء أفضل للقيام بها بدلاً من اتباع أوروبا هذه.

في لائحةِ الاتهام هذه التي تضع فيها أوروبا ضد نفسها، يلوّح فانون بوعدها الذي خانته من أجل المطالبة بشكلٍ أفضل بالتغلب الذي يحققه في النهاية.  إنّ أوروبا التي أعلنت المساواة الطبيعية، ثم أعلنت عالمية الحقوق، داستها ونهبها من خلال الاستعمار والإمبريالية، وحرمانها الشعوب والإنسانيات التي اضطهدتها واستغلتها.

سمٌ قاتل

وهذا الدجال المدمر (الاستعمار والإمبريالية) هو الذي أدّى إلى استمرار الظلم الطويل الذي لحق بفلسطين بسبب احتلال واستعمار أراضيها منذ عام 1967، والفصل والتمييز ضد شعبها، حتى في حاضرنا، وانتشار حتى داخل المجتمع الإسرائيلي سم قاتل للمثل الديمقراطية كما يتضح من صعود القوى اليهودية اليمينية المتطرفة، التي لا تقلّ عنصريةً عن معاداة السامية.

ليس هناك سوى إنسانية أممية. وهذا ما قصده نيلسون مانديلا عندما أعرب عن امتنانه للشعب الفلسطيني لمساعدته في الكفاح ضد الفصل العنصري: “نحن نعلم جيداً أنّ حريتنا غير مكتملة بدون حرية الفلسطينيين”. وفي المقابل، فإنّ لامبالاة معظم القادة الأوروبيين تجاه مصير فلسطين يُعرّض للخطر فكرة أوروبا عن نفسها وقيمها ومبادئها.

فماذا يمكنها أن تقول غداً في مواجهة انتهاكات القانون الدولي التي تُثير قلقها أو تهددها، مثل الحرب العدوانية التي تشنّها روسيا على أوكرانيا، بعد أن عجزت عن إنقاذ فلسطين؟ كيف ستجرؤ على إلقاء المحاضرات على القوى الأخرى، الاستبدادية والإمبريالية، التي ترفض أيّ حقٍ يمكن أن يحبط طموحاتها عندما لا تتمكن من الدفاع عنه ضد “إسرائيل”، أو حتى عندما تتخلى ببساطة عن طريق صوت البعض من مسؤوليها الدعم “اللامشروط” لهذه “الدولة” (إسرائيل) مهما كانت تصرفاتها؟

قبل ما يزيد قليلاً عن عام، في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ألقى جوزيب بوريل، نائب رئيس المفوضية الأوروبية والممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، الكلمة الافتتاحية للأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية الجديدة في بروج.

ثم أوضح بكل فخر أنّ “أوروبا هي حديقة” حيث “كل شيء يعمل”، “أفضل مزيج من الحرية السياسية والازدهار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي الذي تمكنت البشرية من بنائه”. وعلى العكس من ذلك، أعرب عن قلقه من أنّ “معظم بقية العالم عبارة عن غابة، ويمكن أن تسيطر الغابة على الحديقة”. وأوصى قائلاً: “يجب على البستانيين [الأوروبيين] الذهاب إلى الغابة”. ويتعيّن على الأوروبيين أن يكونوا أكثر تفاعلاً مع بقية العالم، وإلا فإنّ بقية العالم سوف يغزونا بطرقٍ مُختلفة وبوسائل مختلفة.

في ظلّ غزّة المُخربة وفلسطين المكلومة، أين الحديقة، أين الغابة؟ وأين ذهب هؤلاء المسؤولون “البستانيون” الأوروبيون الذين تخلوا في الأشهر الأخيرة عن الاهتمام بالعالم والإنسانية؟ وبعيداً عن كونها غريبة عنا، فإنّ الغابة تتكاثر من خلال عمى الغزو والقوة والاستغلال والسيطرة.  أما الحديقة، مهما بدت نظيفة، فإنّها يُمكن أن تكون مرتعاً لأسوأ الأعمال الوحشية، تلك التي تؤدي، باسم الهويات والأصول والحضارات التي تعتقد أنّها متفوقة على غيرها، إلى جريمة إبادة جماعية.

المصدر : الميادين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى