صخب المطارق ووعود الرجال.. أصوات الغزّيين “المُطَمْئنة” لعائلة تحت الأنقاض
تحتاجُ إلى جلدٍ وطاقةٍ هائلة، لتضبط الانكسار الذي يهوي بنفسك سريعاً إلى الانهيار التام، حين شققنا صفوف المئات من الوجوه المشدوهة في محيط البيت، إلى ثغرة الحائط الذي يتبدى منه شعر إيلين خليل.
أدركنا هولَ ما هو مُنتظر: “100 واحد في البيت، ست طوابق هدموها عليهم”، صرخ الشاب أحمد خليل، الذي صبغ الركام وجهه بالرماد، وأضاف في حديثه إلى الميادين نت: “هذا البيت مكوّن من 6 طبقات، صار مركز إيواء لعشرات الأسر من الأقارب، قصفوه على رؤوسنا، أكثر من 80 شهيد تحت الركام و20 على الباب ومن المارة”، قال ما تقدم، ثم صعد مسرعاً إلى الدرج الذي يقودنا إلى الطبقة الوحيدة المتبقية من المنزل الذي يقع في بلوك 2 بمخيم جباليا شمال قطاع غزة، هناك، يزدحم العشرات من الشبان، لا أحد منهم من العائلة المقصوفة، جميعهم من الجيران وشباب الحارة، إذ لم يتبقَ مِن مَن كانوا في المنزل، سوى أحمد ووالده، كلاهما فقط، كانا قد غادرا قبل دقائق من تمام الساعة الواحدة ظهراً من يوم الأربعاء الماضي، باحثين عن دواءٍ لندى.
سمعنا صوتها، أطبق سقفٌ كاملٌ على نصف جسدها، وأحاط الركام بنصفها الباقي من كل اتجاه، الجيران الذين يبذلون جهداً مضنياً، نيابةً عن رجال الدفاع المدني الذين لم يصلوا بعد، أضحت ندى أختهم جميعاً: “والله لنطلعك يا أختنا، لا تخافي كلنا معك، ما بنتركك”، هكذا، كانوا يردّون على استغاثاتها التي لم تنقطع.
ندى، هي شقيقة أحمد الكبرى، كانت تعاني من ألم شديد في معدتها، وهذا الألم للمفارقة الصارخة، كان سبب نجاة شقيقها أحمد ووالدها، اللذين جابا شوارع المخيّم بحثاً عن دواء يخفّف وجعها، وما لا تعرفه الآن، أنّها الناجية الوحيدة من بين أبنائها الأربعة و75 من أقاربها.
لا ينسى الشبان تذكيرنا بين الفينة والأخرى، بأن على الصحافيين أن لا يظهروا مشهداً قريباً لـ “أختهم”، لأن “أمورها ليست على ما يرام”، تمضي الساعات من دون تحقيق أي نتيجة تذكر، يتصبب العرق من جبين الشبان وسواعدهم، أكوام الأسمنت المسلح بالحديد الآيلة للسقوط في أي لحظة، لا يمكن التعامل معها بالمطارق، على رغم الخطر الشديد، تشعر أن ثمة ما هو أهم من السلامة الجسدية الآن، الجميع يؤثر الروح التي تحتجزها طبقات المنزل المهدمة، على حياته.
أسفرت المساعي التي تناوبت عليها سواعد الشبان أخيراً، في إزاحة الركام عن الجزء العلوي من جسدها الذي كان يعيقهم من الوصول إليها فقط، أضحوا قريبون منها، لذا، استقدموا ابنة الجيران التي التحقت قبل عام في قسم التمريض، لكي تقطب جرحاً عميقاً في رأسها، جاءت تالا، أحضروا لها شاشاً ومعقم من عيادة العصرية القريبة، طهّرت الجرح بأيادٍ مرتعشة، أحاطته بلفّافات الشاش، وأخرجت ثوب صلاة من شنطتها، وغطّتها به.
على الجدار الخارجي من المنزل، كانت تدور معركة أخرى، ربط الشبان جسد كريم بالحبال، أمسكوا به جيداً، قبل أن يخوض المغامرة الشاقة، إن عليه أن يضع قدميه على حافة البيت، ويسند ظهره إلى الهواء، بينما يشدّ الرجال حبلاً أحاط بخاصرته، ليبدأ بعدها الحفر عن باقي إيلين، التي لا يتبدى من جسدها سوى رأسها، وعلى رغم أن طبقات المنزل لا تزال تطوي جثامين العشرات من الشهداء، فإن أقل ما هو ممكن الآن، أن لا تتعذب العائلة برؤية وجه إيلين وهو يتحلل أمام أعينهم يوماً بعد آخر.
يواصل الجيران العمل، عشرة شهداء فقط، هم من وصلت إليهم السواعد، لا تزال هناك جثامين لنحو سبعين شهيداً، هؤلاء ستؤجل مرحلة التنقيب عنهم إلى ما بعد وقف إطلاق النار، إذ إنّ مهمة كهذه، بحاجة إلى معدات ثقيلة وطواقم متخصصة، ولم يتبقّ في شمال القطاع، شيئاً من ذلك، بعد أن دمّرت الدبابات الإسرائيلية معظم الآليات والجرّافات التابعة للبلديات والدفاع المدني، فيما يعمل عناصر الأخير، بأيديهم فقط، ينتشلون الجثماين الظاهرة، أو تلك التي يسهل الوصول إليها، ويتركون البنايات المقصوفة قبوراً للبقية، تحولت المدينة كلها إلى مقابر جماعية.
تلاشى قرص الشمس بين غبار الأفق، وواصل الشبان العمل، بينما يتواصل القصف العنيف أيضاً، أضاؤوا كشافات الهواتف المحمولة، جلبوا لـ “شقيقتهم” الأعز على قلوبهم جميعاً، الماء والتمر، وواصلوا تقديم الوعود: “باقي شوية وبنطلعك”، علت أصوات ارتطام المطارق بكتل الأسمت الكبيرة: “واحد يضرب والثاني يتصدى الغبار والحجارة بظهره، حتى ما يتآذى وجهها” قال صامد موجهاً. وعلى بُعد من الحشد، وقف أحمد، بوجه جمع في ملامحه عجز العالم كله، فاليوم يدرك أن الموت دفعة واحدة، ليس أقسى ما يفرضه القدر، إذ إن عليه أن يراقب خروج بعضاً من روح شقيقته الكبرى طوال 30 ساعة، امتزجت فيها استغاثاتها مع ضربات المطارق، ووعود الرجال.
المصدر : الميادين