حول العالم

تجربة الاختفاء الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي

تتعدّد ساحات المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، كما تتعدّد أساليب المواجهة وتوقيتها وتنفيذها. قواعد الاشتباك تتباين أيضاً؛ فتارة يلزم ظهور المقاتلين والاشتباك وجهاً لوجه، وأخرى يجب استعمال وسائل رماية عن بعد بالذخيرة الحيّة بحيث تتيح للمقاتلين الاحتماء بالمتاريس أو التضاريس الجغرافية، وأحياناً يجب الاختفاء عن وجه العدو، عملاً بسياسة “اضرب واهرب” مع تحفّظنا على مصطلح “اهرب”؛ حيث أن الهروب لا يكون إلا متحرّفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئة، وغير ذلك فهو مرفوض من حيث الواجب العسكري والديني والأخلاقي.

لتجربة الاختفاء الفلسطينية أسبابها، فمنها قوة العدو الهائلة وعيونه المنتشرة في كل مكان، سواء البشرية أو التقنية مقابل مقاوم واحد أو مجموعة مقاومين، كما أنها تجربة غنية بالخبرات والتفاصيل التي تستحقّ الدراسة والتمحيص.

مؤلف الكتاب حسن نعمان الفطافطة هو كاتب وروائي من بلدة ترقوميا بقضاء الخليل، اعتقل في سجون الاحتلال ما مجموعه 24 عاماً حيث مارس تجربة الاختفاء والمطاردة وتكلّم عنها بين ثنايا الكتاب.

استعمل الباحث في كتابه المنهج المادي التاريخي والوصفي التحليلي. صدر الكتاب عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2023 ويقع في 187 صفحة من القطع المتوسط. يشتمل الكتاب على خمسة فصول جاءت كما يلي:

الفصل الأول يبحث في ظاهرتي الاختفاء والمطاردة في فلسطين والعالم، وفي الفصل الثاني يبحث تجربة الاختفاء في الضفة والقطاع في الفترة (1967 ـــ 1977)، في الفصل الثالث تناول الباحث تجربة الجبهة الشعبية في الاختفاء في الضفة والقطاع ما بين الأعوام 1976-1994، وفي الفصل الرابع تناول تجربة الاختفاء لدى كتائب القسّام في الفترة 1991-2000، وفي الفصل الخامس تطرّق إلى تجربة الاختفاء في الضفة خلال الفترة ما بين الأعوام (2000 ـــ 2022).

تحدّث الباحث عن صعوبات واجهته في بحثه تمثّلت في غياب أكثرية الذين خاضوا تجربة الاختفاء سواء بالاستشهاد أو الاعتقال، وعدم تجاوب العديد من الأشخاص مع طلب إجراء مقابلات معهم، وتعدّد الروايات المكتوبة وعدم دقّتها ومبالغة البعض أحياناً في تقديم روايات ومواقف غير حقيقية، وصعوبة الفصل بين ظاهرتي الاختفاء والمطاردة.

تحدّث الباحث عن المطاردة والاختفاء، ورغم الشبه بينهما، إلا أنه يستشفّ من حديثه أن المشترك بينهما هو أن المطارَد والمختفي يحاولان الفرار من الاحتلال، والمطارَد كثير التنقّل لكن المختفي قد يركن إلى مكان ما لفترة طويلة. عرفت تجربة الاختفاء على مدار العصور، فقد اختفى معارضو الحكم الأموي والعباسي والفاطمي والمملوكي، وحركات الإسماعيليين والحشّاشين. كما كان ظاهرة عالمية حيث مارسه الأيرلنديون في نضالهم ضد الإنكليز وحركة الماو ماو في كينيا، واستعمل في اليونان والأرغواي وغيرها.

عن وجهة المختفين قبل قيام “دولة إسرائيل” كان يتجه الفلسطينيون إلى الدول المجاورة كسوريا ولبنان والأردن، وبعد إنشاء السلطة الفلسطينية كانوا يتجهون إلى مناطق “أ” قبل أن تلغي “إسرائيل” هذه التقسيمات وتستبيح الضفة الغربية كلّها.

عن دور المرأة يقول الباحث إنها انضمت في قطاع غزة إلى قوات التحرير الشعبية وساهمت في أعمال نضالية ولوجستية، وكان منهن رحيمة أبو شمالة، فاطمة الحلبي، سعاد أبو السعود، ومنهن من اشتركت في عمليات فدائية كعايدة سعد ودلال أبو قمر. ومن النساء ظهرت كلّ من فيروز عرفة ومريم أبو دقة وخضرة قاسم وغيرهن. لكن في الضفة الغربية كان دورهنّ محدوداً، واقتصر على القيام بدور الرسول بين المختفين والمطاردين في جبال الخليل وقباطية. ولم يستعن الشيوعيون الفلسطينيون بالمرأة في تجربتهم في الاختفاء، كما أن دور المرأة كان شبه غائب في تجربة القسّام، وكان هناك حضور جزئي لدور المرأة الإسنادي للتخفّي في الجبهة الشعبية.

يسرد الباحث أسماء متخفّين كثراً منهم محمد الأسود (جيفارا غزة) الذي تخفّى ثلاث سنوات، وباجس أبو عطوان لمدة ست سنوات وأسماء كثيرة قد لا يتسع المجال لذكرها هنا. وخلال الانتفاضتين الأولى والثانية ظهرت مجموعات عسكرية تابعة للفصائل الفلسطينية، حيث ازدادت ظاهرة المتخفّين والمطاردين، وعرفت الظاهرة صعوداً وهبوطاً تبعاً لظروف سياسية وميدانية وتنظيمية.

يقول الباحث إن المتخفّين في غزة أبدعوا في ابتكار وسائل التمويه والتنكّر نظراً لكثافة حجم السكان مما يسهّل تعرّفهم إلى بعضهم البعض، أما في الضفة الغربية فكان ذلك محدوداً نوعاً ما لأن الأغلبية اتخذت الجبال ملجأ لها. وعن آلية التواصل مع الأهل يقول الباحث إن ذلك كان يتم في قطاع غزة مرة كل ثلاثة أشهر تقريباً، وبترتيب من التنظيم من قبل النساء على الأغلب. أما في الضفة فكان ذلك يتم بطريقة عفوية وغير منتظمة.

قرار التخفّي كان يتم بقرار تنظيمي وشخصي لدى الشيوعيين، أما بقية الفصائل فكان الأمر شخصياً إلى حد بعيد. أما بالنسبة لوسائل التنكّر فكانت تتراوح ما بين لبس بدلة وربطة عنق، وتقمّص أدوار طبيب، أو قارئ عدّاد الكهرباء، أو امرأة مقنّعة، أو فلاح أو عجوز يحمل عصا. وقد كان عباس السيد يتنقّل في السيارات من دون أن يمشي وتخفّى بزي نساء، وعبد الله البرغوثي الذي حمل هوية مزوّرة على أنه مسيحي وغير ذلك. أما عن وسائل التمويه فقد استعملوا طريقة التحايل على السياج الإلكتروني بين الأردن وفلسطين بإزالة الآثار بأحذية مصنوعة من جلود الأغنام، أو السير بطريقة عكسية لإعطاء انطباع أنهم خرجوا من فلسطين ولم يدخلوا إليها.

عن شروط توافرت لنجاح نمط التخفّي كالجبهة الشعبية نموذجاً يذكر الباحث تأمين بيوت سرية آمنة أمنياً واجتماعياً، وتوفير طاقم فنّي لتلبية المتطلّبات الضرورية للمتخفّي، وامتلاك المتخفّي جملة من السمات والمواصفات التي تؤهّله للتخفّي، والقدرة على التحمّل والصبر على حياة العزلة، وامتلاك المتخفّي مهارات أساسية في البناء والعمل التنظيمي، وضرورة ضبط المتخفّي حركته وتنقّلاته خارج حدود البيت السري الذي يعيش فيه.

كان نمط التخفّي لدى الجبهة الشعبية خلال الفترة 1976-1994 يقوم على الاختباء في بيوت سرية داخل المدن، قطع صلتهم بالمرحلة السابقة وبدء مرحلة جديدة من الانقطاع الاجتماعي، ما يشبه انعدام وجود حاضنة شعبية، المتخفّون كانوا من الكوادر المفصلية في الجبهة على الأغلب.

عن السمات العامة لنمط الاختفاء لدى كتائب القسام في الفترة 1991-2000 يذكر الباحث تنوّع أماكن الاختفاء ما بين الشقق المستأجرة والبيوت السرية والكهوف والمغاور في الضفة الغربية، في حين كان الاختفاء في غزة لدى عائلات موثوقة كما جرى مع عماد عقل. كما سادت حالة من الحركة والتنقّل للمتخفّين حيث انتقل بعضهم من الضفة الغربية إلى غزة، أمثال يحيى عياش وعبد الناصر عيسى، وانتقل الشهيدان عماد عقل وحسن سلامة وغيرهما إلى الضفة الغربية، إضافة إلى تنقّلهم داخل المحافظة نفسها والتنقّل الدائم والتقليل قدر الإمكان من استخدام الرسائل والتقارير المتداولة.

توفّرَ لمتخفّي القسّام الحاضنة التنظيمية والشعبية من ناحية التخفّي والتنكّر استخدمتهما القسّام بشكل واسع حتى أنهم تقمّصوا شخصيات يهود ورجال شرطة فلسطينية. كما أن التواصل مع عائلات المتخفّين تكفّل به طواقم من المساعدين، ومنهم من رافقته عائلته بالسكن في أماكن اختفائه. استخدم الاحتلال كلّ الوسائل التقنية والبشرية للوصول إلى متخفّي القسام. ويصل الباحث إلى أن القسام استعملوا كل أشكال الإيواء التي استخدمها المتخفون الفلسطينيون.

يتناول الباحث تجربة الاختفاء في الفترة 2000-2022، في الضفة الغربية، ولم يتناول غزة من دون ذكر السبب. في تلك الفترة لجأ الكثير من المطلوبين إلى المناطق المصنّفة “أ” كون الاحتلال لم يكن يدخلها حينها، وقد اعتقلت السلطة الفلسطينية بعضهم، وأحياناً كانت تطلق سراحهم إما لضغط الشارع، أو بسبب قيام الاحتلال بقصف مقارّ أمنية للسلطة الفلسطينية.

ما ميّز فترة انتفاضة الأقصى أن الحاضنة الشعبية شكّلت ملاذاً لقسم كبير من المطلوبين بعد تراجع الحاضنة التنظيمية. كان التواصل في تلك الفترة يتمّ عبر اللقاء المباشر، وكان الهاتف يستعمل على نطاق ضيّق للدعوة للقاء، قبل اجتياح ما سمّي (السور الواقي) حيث إنه بعد ذلك أصبح المتخفّون يستعملون الرسائل المغلقة، أو يستعملون رقم الهاتف لمدة محدّدة، أو الرسائل النصية (SMS) حيث كانت تكتب الرسائل بطريقة غير مفهومة إلّا لذوي الشأن. كما ذكر الباحث عدة حالات تمكّن فيها الاحتلال من رصد مطاردين بعد استعمالهم الهاتف أو شبكات الإنترنت.

بدأت ظاهرة التخفّي والمطاردة تتلاشى مع انتهاء انتفاضة الأقصى، وصدور عفو عن بعض المطاردين من قبل “إسرائيل” التي لم تلتزم بذلك حين اغتالوا أحمد سناكرة وإبراهيم المسيمي. تلاشت الظاهرة تقريباً باستثناء حالة مطاردة ماهر عودة الذي اعتقل عام 2010 وباسل الأعرج التي انتهت باستشهاده عام 2017، حيث أن التعاون الأمني ووجود شبكة العملاء والأقمار الاصطناعية والكاميرات حدت من الظاهرة. عادت ظاهرة المطاردة عام 2021 تحديداً في شمال الضفة الغربية بظهور خلايا مسلحة.

في النهاية أقول إن الكتاب قيّم ويلقي الضوء على ظاهرة التخفّي والمطاردة عبر حقب تاريخية وسياسية مختلفة، وهو يلقي الضوء على صفحات تكاد تكون مجهولة للجيل الحالي، ويمثّل إضافة للمكتبة العربية. ومن باب التقويم والتوجيه أظن أن التقسيم الزمني لتجربة الاختفاء كان يلزم أن يكون مقنعاً أكثر، أو أن يفسّر الباحث لماذا تحدّث في الفصل الثاني عن تجربة الاختفاء في فترة 1967-1977، ثم عاد ليتحدّث عن تجربة الجبهة الشعبية من 1976-1994، ويفترض أن هناك سنة مشمولة في الفترة 1967-1977، ولماذا اختار أن تكون تجربة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الفترة 1976-1994، ماذا عن الفترة السابقة واللاحقة لفترة تمتد ثمانية عشر عاماً تباينت الظروف السياسية والحزبية خلالها، ولماذا تحدّث عن تجربة القسّام في الفترة 1991-2000، ثم عاد ليتحدّث عن التجربة الفلسطينية ككلّ بعد العام 2000.

يذكر الباحث قرية قراوة بني حسّان، على أنها قراوى بني حسان وهذه الصيغة من الكتابة ليست الدارجة في الأدبيات والجغرافيا الفلسطينية. كما ترد عبارة “إمكانات بشريه” في الصفحة 5 والصحيح “بشرية”. ووجود فراغ بعد رقم الحاشية السفلية لا لزوم له، كما أن الباحث لم يتناول تجربة الجهاد الإسلامي في التخفّي والمطاردة من دون إبداء الأسباب، مع أنه فصيل مؤثّر خاصة في غزة، وحبذا لو ذكر تجارب فصائل أخرى صغيرة –مع احترامنا للجميع-في التخفّي والمطاردة، إن وجدت، ولو من باب التذكير. ولا بدّ من ملاحظة أنه عندما يتكلّم الكاتب عن نفسه يورد شهادته على أنها مقابلة معه، أظن أنه كان يلزم أن يذكر أنها شهادة شخصية ما دام هو كاتبها؛ فهو لم يحاور نفسه بالطبع.

المصدر : الميادين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى