مستشفى الشفاء وتكتيك كيربي الأميركي.. قصة البحث عن صورة نصر لم يتحقّق
يبدو أن “جيش” الاحتلال الإسرائيلي وجنرالاته ومعهم حكومتهم الفاشية النازية برئاسة بنيامين نتنياهو، جميعهم متعطشون ومصمّمون على إبادة عزّة بمن فيها من حجر وبشر، وعازمون على القضاء على آخر مقوّمات الحياة في القطاع، ونعني بذلك المستشفيات، وحرمان الفلسطيني بالتالي من الملاذ الوحيد الذي ظن أنه آمن. لكنه اكتشف أنّ كلّ شيء مباح لآلة القتل الصهيونية.
فبعد قيامهم بارتكاب جريمتهم التاريخية الموصوفة ضد الإنسانية، وقصفهم لمستشفى المعمداني وسحق نزلائها والنازحين إليها، جاء دور مستشفى الشفاء هذه المرة، بعدما أقدم على تشويه صورتها إعلامياً، وتحويلها إلى رمز للإرهاب تمهيداً لاقتحامها وهو ما حصل فعلاً، (وربما يسعى لتدميرها لاحقاً)، من خلال الترويج والزعم بوجود مراكز قيادة وسيطرة “لكتائب القسام” أسفلها. أمّا الهدف فهو البحث عن صورة نصر لم تتحقّق إلى اليوم.
وتبعاً لذلك كانت عملية دخول المستشفى تتويجاً لأسابيع من الحملات والأكاذيب والدعاية الإسرائيلية التضليلية، إضافة إلى عشرات المؤتمرات الصحافية والمقابلات الإعلامية، التي أكد فيها المسؤولون الإسرائيليون مراراً وتكراراً أن المرافق الطبية تُستخدم لأغراض عسكرية، وأن مستشفى الشفاء على وجه التحديد هو “القلب النابض” للبنية التحتية لقيادة حماس في شمال غزة.
من هنا، كانت الغارة على المستشفى بمثابة مهزلة وجريمة حرب محتملة، وهجوم آخر على نظام الرعاية الصحية المدمّر بالفعل في غزة، بعدما عمد إلى انتهاك حرمتها، بالرغم من أنها تتمتع بالحماية والحصانة، وفقاً للقوانين والمعاهدات والشرائع والأنظمة والقواعد القانونية الدولية (هذا كان إن بقي ما يسمّى قانون دولي بالأصل).
وكيف مهّدت “إسرائيل” لاقتحام مستشفى الشفاء؟
في الواقع، بدأت الادعاءات الإسرائيلية حول وجود حماس في مستشفى الشفاء وغيره من المستشفيات في الأيام الأولى للحرب. وفي هذا السياق، عقد “الجيش” الإسرائيلي في الـ 27 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مؤتمراً صحافياً حول هذا الموضوع، أعلن فيه المتحدث باسمه دانييل هاغاري أنه سيكشف عن معلومات استخباراتية “تثبت أن حماس تستخدم المستشفيات كبنى تحتية إرهابية. وادّعى أن مستشفى الشفاء يخفي مركزاً كبيراً للقيادة والسيطرة تابعاً لحماس، ويمكن الوصول إليه من خلال مداخل سرية إلى أنفاق تحت الأرض.
كما عرض “جيش” الاحتلال عدداً من البيانات التي تشير إلى المستشفى كقاعدة لحماس. وفي إحدى الإحاطات، قدّم المسؤولون خريطة للموقع تشير إلى أن حماس لديها مجمّعات تحت الأرض أو إلى جوار المرافق الطبية مثل العيادات الخارجية.
ثم أبرز الاحتلال مقطع فيديو بالرسوم المتحركة لما زُعم أنه يقع تحت المنشأة، حيث كان مقاومو حماس، ملثّمين ويقومون بدوريات على أحد الطوابق، والذي كان متصلاً بعدة مكاتب تحت الأرض. وقال هاغاري “هذا مجرد مثال… لن نشارك هنا المواد الحقيقية التي بين أيدينا”، مضيفاً أنه “تمّ تبادل المعلومات الاستخبارية مع الحلفاء”.
وماذا عن حقيقة وجود أسلحة في مستشفى الشفاء؟
عملياً، كانت السردية الإسرائيلية حول المستشفى ووصمها بالإرهاب أشبه بمسرحية مملّة خالية من أي مضمون، إلى حد أنّ أحد أهمّ الصحف الأميركية كالـ “واشنطن بوست” مثلاً (وهي بالمناسبة من أشدّ المتحمّسين والداعمين المتبنين بشكل أو بآخر لكلّ ما يقوم به الكيان الغاصب) شكّكت بصحة رواية “تل أبيب”، وقالت حرفياً، إن المسؤولين الإسرائيليين لم يقدّموا دليلاً قاطعاً، يؤكّد أن جماعة حماس المسلحة لديها مركز قيادة أسفل مستشفى الشفاء في غزة – وهو ملجأ لآلاف المرضى المذعورين والأطباء المثقلين بالعمل والمدنيين النازحين – مما يجعلها هدفاً عسكرياً مشروعاً”.
ولهذه الغاية، نشر “الجيش” الإسرائيلي مقطعَي فيديو، وبعض الصور من غرف الشفاء يوم الأربعاء الفائت، تظهر ما قال إنها أسلحة حماس ومعدات أخرى تمّ انتشالها من المجمّع.
اللافت في الأمر، أن غالبية مشاهد مقطعَي الفيديو، يبدو أنها قد تمّ تصويرها داخل وحدة الأشعة بالمستشفى، والتي تسمّى مركز الأمير نايف، وهي تقع إلى جوار غرفة الطوارئ في قلب مجمّع الشفاء. ففي مقطع الفيديو الأطول، يقوم المتحدث باسم “الجيش” الإسرائيلي، جوناثان كونريكوس، بجولة في لقطة واحدة للمبنى، ويتوقّف بشكل دوري لإظهار المكان الذي قال إن حماس قد أخفت فيه “حقائب السفر”.
وفي حركة بهلوانية سخيفة، ينحني جوناثان كونريكوس خلف جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، ليُظهر للمشاهدين حقيبة ظهر يوجد فيها، بندقية من طراز AK وذخيرة مرئية. ثم ينتقل بعدها إلى أسفل القاعة، ويتوقّف عند خزانة حيث قال إنه تم العثور على 4 بنادق ذاتية التحميل من طراز AK مع مخزون قابل للطي.
ولإتمام المشهد التمثيليّ، ذي الإخراج السيّئ والبدائي بالمناسبة، والذي يفتقر إلى سيناريو واقعي وحبكة محترفة مقنعة للجمهور، نشر “الجيش” الإسرائيلي، في وقت لاحق، صوراً تظهر العتاد العسكري المزعوم، وهو مرتّب بدقّة ويحتوي على: زيّ عسكريّ، و11 بندقية، 3 سترات عسكرية، وواحدة تحمل شعار حماس، و9 قنابل يدوية، ومصحفين، وعدد من سبحات الصلاة، وعلبة تمر.
اللافت هنا، أنّ هذا الفيلم الإسرائيلي المحروق وبدل أن يحسم الجدل لصالح الكيان الغاصب، ويدعم ادعاءاته، فيما يتعلّق بوجود مراكز ومخازن أسلحة ورهائن في المستشفى، ارتدّ سلباً عليه، وجعله عرضة للسخرية والتنمّر وإطلاق النكات، بسبب أدائه التمثيلي السيّئ والفاشل. إذ أول ما طرحه المراقبون هو السؤال الآتي:
هل يعقل وبعد أسابيع من تهديدات قادة الاحتلال بدخول “جيشهم” المستشفى ــــ لدرجة أن سكان الصين وأستراليا علموا بنية “تل أبيب” ــــ أن يترك القائمون عليها، حفنة من الأسلحة الصغيرة والملابس العسكرية التي يسهل حملها وإخفاؤها والتخلّص منها، ويبقون عليها في الغرف، بانتظار أن يأتي عناصر العدو، ويعثروا عليها بهدوء وروية، ومن ثمّ يقدّمونها كدليل دامغ للرأي العالم، وبالتالي يثبتون صحة الرواية الإسرائيلية؟
ويتابع المراقبون، لو أن “جيش” الاحتلال قدّم صوراً مثلاً لمخزن أسلحة داخل المستشفى، كان يمكن أن نصدّق الرواية الإسرائيلية حينها، ونقول إن هذه الكمية من الأسلحة لا يمكن نقلها بسهولة، لذا أجرى الاحتلال عملية استباقية، ووضع يده على هذا السلاح، بعدما تعذّر على الطاقمَين الإداري والطبي في المشفى، إخفاؤها بالسرعة المطلوبة، والتخلص من الدليل الذي يجرّمهم.
الجدير بالذكر، أنّ صحيفة واشنطن بوست، أعلنت أنها لم تتمكّن من التحقّق بشكل مستقل من ملكية الأسلحة أو كيفية وصولها إلى وحدة الأشعة.
وكيف ظهر زيف وتضليل “تل أبيب”؟
في الحقيقة فضح العدو الإسرائيلي نفسه من خلال ما قدّمه أعلاه، وهو ما فنّدته الواشنطن بوست التي خلصت في تحليلها إلى الآتي: يعرض كِلا مقطعَي الفيديو بعضاً من المساحات نفسها. في إحدى هذه اللقطات، شوهدت القوات وهي تكتشف أسلحة وحقائب ظهر مليئة بالنقود. وفي مقطع آخر، قام المتحدث باسم “الجيش” الإسرائيلي دانييل هاغاري بجولة في المستشفى المهجور. وفي بعض الأحيان كان يتمّ قطع كلام هاغاري من منتصف الجملة، أو تجميع لقطات مختلفة معاً.
وتضيف الصحيفة، “استشهد” هاغاري بربطة شعر على الأرض (أي عصبة) كدليل على أن حماس احتجزت رهائن في قبو المستشفى، فيما كُتب على رأس تقويم (أي رزنامة) على الحائط “طوفان الأقصى”، وهو الاسم الذي أطلقته حماس على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر على “إسرائيل”.
والأكثر أهمية في هذا السياق، أنّ الصحيفة كشفت كذب وخداع “جيش” الاحتلال بشكل غير مباشر، بإشارتها أوّلاً إلى أن “هاغاري زعم أن التقويم يتضمن أيضاً أسماء مقاتلي حماس المكلّفين بحراسة الرهائن باللغة العربية، لتعود وتوضح لاحقاً، (قضية الأسماء) مباشرة قائلة “لقد كانت في الواقع (أي أسماء مقاتلي حماس) مجرّد أيام الأسبوع”.
أما الفضيحة الكبرى، فهي التناقض في تصريحات المتحدّثين باسم “الجيش” الإسرائيلي، ففي حين كان أحدهم ويدعى ريتشارد هيشت، حذراً الأربعاء الماضي في كلامه خلال في مقابلة مع شبكة سي أن أن حول ما كشفته الغارة، حيث قال “لقد وجدنا أشياء معيّنة” هذا كل ما يمكنني قوله في هذه المرحلة. بالمقابل، أكدت إذاعة “الجيش” الإسرائيلي أن قواته، لم تعثر على أيّ علامة على وجود رهائن في الموقع.
ليس هذا فحسب، صحيح أنّ “الجيش” الإسرائيلي قدّم “رسوماً توضيحية” لما قد تبدو عليه هذه المناطق تحت الأرض، إلا أن المسؤولين لم يقدّموا دليلاً قاطعاً. والكلام هنا لصحيفة الواشنطن بوست.
في المحصّلة، إن عملية اقتحام مستشفى الشفاء، ما كانت لتتم، لولا الموافقة الأميركية الواضحة (والتي عادت واشنطن وتبرّأت منها)، حيث أكد المتحدّث باسم الأمن القومي جون كيربي للصحافيين على متن طائرة الرئاسة الثلاثاء الماضي، أنّ حماس تستخدم هذا المستشفى بالذات في وضع القيادة والسيطرة، مستشهداً بمعلومات استخباراتية رفعت عنها السرية وهذه جريمة حرب. وبعد ساعات دخلت القوات الإسرائيلية المستشفى.
المثير في الأمر، هو التخبّط الأميركي الفاضح، بعد الفشل في تقديم إثبات أو دليل قاطع بوجود بنية عسكرية لحماس داخل المشفى، ولهذا قال كيربي في اليوم التالي أي الأربعاء الفائت، “إن التصريحات الأميركية في الليلة السابقة لم تكن بمثابة ضوء أخضر للعملية الإسرائيلية في الشفاء”. وأضاف “لم نمنح الموافقة على عملياتهم العسكرية حول المستشفى، إنما الموافقة على عملياتهم التكتيكية الأخرى”. فهل كان يقصد كيربي التكتيك الإسرائيلي ضد الأطفال الخدّج.
المصدر : الميادين