غزة تكشف الأقلية العالمية
كشفت الحرب الإسرائيلية الهستيرية على غزة مفاجآت كبرى. بعضها يتمثل بتحولاتٍ حقيقية في التوازنات ضمن الصراع، فيما يرتبط بعضها الآخر بطبيعة النظام الدولي والعلاقات ضمن التحالف الغربي وعلاقة هذا التحالف بالنظام الدولي وبقية العالم.
ربما ليست مفاجآت تامة في حقيقتها، لكنها انكشافات لحقائق كان المدققون والمجتهدون في تتبع وتفسير طبيعة الأنظمة الغربية يعرفونها، وهي الآن تميط اللثام أمام الملأ عن وجهٍ صادمٍ للملايين من شعوب العالم؛ حقائق كان فهمها حكراً على الأذكياء، لأنها صنيعة حيل الأذكياء أيضاً، وهي اليوم صريحة وصارخة.
أهم هذه الحقائق أن الولايات المتحدة الأميركية تسيطر بصورةٍ كافية على جميع دول التحالف الغربي، وعلى معظم نخبتها السياسية، وأن من لا تسيطر عليهم، تحرص على إبقائهم خارج السلطة بكل الأساليب الممكنة، وتحاصرهم بالإعلام وبالمال وبالجمعيات والناشطين من شبكة المجتمع المدني العالمي التي أسستها في العقود الماضية، وأنها قادرة حتى اليوم على إبقاء هؤلاء خارج دائرة التأثير الفعلي والنشاط الحر في مجتمعاتهم.
السيطرة الأميركية ضمن المنظومة الغربية متشعبة وأخطبوطية، وربما هي ما خلصت إليه الإمبراطورية الأميركية بعد تقلّص سيطرتها على العالم. الآن، تراجعت بصورةٍ أكيدة من إمبراطورية العالم الوحيدة إلى إمبراطورية بين أخريات، لتصل إلى مرتبة الإمبراطورية الحضارية الغربية التي توجد في منافستها إمبراطوريات أخرى صاعدة في اتجاهات نموها، ومتحفزة في طموحاتها، وأكثر عدلاً في مطالبها. على الأقل هذا ما تبدو عليه حتى الآن.
هذه السيطرة الأخطبوطية المتشعبة على الحلفاء ليست ذات وجه واحد، بل إنها متعددة الوجوه والوسائل، إذ لا تتم بالقبضة السياسية فحسب، إنما أيضاً عبر الشركات العالمية التي تشكل دولاً غير مسؤولة أمام القانون الدولي، كما الدول الأخرى. يعاملها القانون كشركات أعمال في نظام اقتصادي حر -بحسب الحال والموقف- فيما نفوذها وأداؤها وتحالفاتها ودعمها ومواقفها أشبه بممارسات الدول.
هذه الشركات تحديداً هي الوسيلة الأكثر فاعلية في سيطرة الولايات المتحدة على حلفائها بصورةٍ عامة، والغربيين بصورةٍ أكثر تحديداً، وهي أيضاً الأدوات التي تطوع من خلالها آراء المؤثرين في العالم، من نجوم ومشاهير وفنانين وأعلام… ينظر الناس إلى مواقفهم ويتأثرون بآرائهم.
هذه المواقف والآراء تكون محاصرةً بتهديداتٍ مستترة وعلنية (بحسب الحاجة) بالإضرار بمصالح أصحابها، وإقصائهم من عالم الأضواء، واستبعادهم من العقود والشراكات والأدوار. الأمثلة هنا أكثر من أن تحصى، وفيها تنخرط كبريات الشركات العالمية التي تسيطر عليها التوجيهات الأميركية، التي هي بدورها غير أميركية بالمعنى الدولتي الصرف للكلمة، بل إنها معايير ومصالح صيغت على شكل “مصالح أميركا”، وترعاها اللوبيات اليهودية وحلفاء ماليون لها، ويمارسون فيها سيطرةً خفية (الآن تبدو علنية ووقحة) على القرار الأميركي في السياسة الخارجية.
هذه الشركات أيضاً هي التي تتلقى الآن خسائر فادحة من جراء مقاطعة كل أنصار القضية الفلسطينية والمتضامنين معهم في العالم منتجاتها وخدماتها.
لا تقل هذه المقاطعة بشيءٍ عن أثر المقاومة العسكرية المسلحة والمباشرة. إنها مكمّل لها. ولولا أن الوقوف ميدانياً للحافظ على الأرض وتحريرها أمرٌ حاسمٌ في القضية نظراً إلى وجودها كعنصرٍ مادي لا مناص من حمايته في القضية، لقلنا إن تأثير المقاطعة هو الأكثر حضوراً وإيلاماً لـ”إسرائيل” والولايات المتحدة ولعصبات الأعمال الحاكمة فيهما.
الآن لك أن تتخيل مواقف الساسة الأوروبيين والمشاهير والمؤثرين، وهم يعلمون أن مجرد التعاطف مع الفلسطينيين المحروقين والمقطّعين والمهجرين، والذين يتعرضون لمحاولة الإبادة، سيؤثر في مستقبلهم السياسي والمهني والمعيشي بصورة أكيدة، فضلاً عن قدرتهم على اتخاذ القرارات المتوازنة فيما لو كانوا في السلطة أو وصلوا إليها يوماً.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الأغلبية العالمية واضحة بما لا شك فيه في موقفها وتأييدها. إنها بالتأكيد ضد “إسرائيل”. الأغلبية الشعبية والدولية والطلابية والمهنية… وما التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على ضرورة وقف إطلاق النار، بمواجهة الجهود الأميركية والإسرائيلية، سوى دليل واضح على ذلك وتأكيد له، إذ وقفت ضد “إسرائيل” 120 دولةً، فيما لم تقف معها سوى 14 دولةً، منها الولايات المتحدة وبريطانيا، ومجموعة من مستعمراتها التي أصبحت دولاً.
هذه كانت المفاجأة الأخرى، لكن الإيجابية من مفاجآت هذه الحرب، فدماء الفلسطينيين، مقاومين ومدنيين، ودماء المقاومين المساندين في لبنان، وجهود المساندين من اليمن والعراق وسوريا وإيران، وأصوات الصادقين في المنطقة وفي كل مكان، كلها استنهضت العالم من كبوته الإنسانية، وألهبت الشوارع بالتظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والمنددة بأعدائهم والجرائم الشنيعة التي أصبحت مهنتهم في هذا العالم. إن كل بيت في هذا العالم تصل إليه الآن جرائم “إسرائيل” التي تتجاوز الشاشات لتشكل اعتداءً على الإنسانية وعلى كل إنسانٍ في هذا العالم.
وفي المنطقة العربية والإسلامية، أعاد المقاومون وعموم الفلسطينيين في غزة والضفة وحلفاؤهم القضية الفلسطينية إلى رأس الاهتمامات اليومية للشعوب كلها، وبصورةٍ تضعها أمام مسؤولياتها وتشكل اختباراً حقيقياً لإنسانيتها.
كثيرون فشلوا في الاختبار، لكن أكثر منهم من نجحوا وباتوا جزءاً من الأغلبية العالمية، وبعض ملامح هذه الأغلبية هو التحول في الشارعين الإنكليزي والفرنسي لمصلحة القضية الفلسطينية، والذي يتم التعبير عنه بحشودٍ استثنائية بمئات الآلاف في كل مرة.
كما أن الاتجاه المستقبلي لرافضي “إسرائيل” وجرائمها يبدو الآن أكثر إشراقاً، وهو يتمثل بالفئة الشابة والطلابية التي خسرت “إسرائيل” المعركة فيها بصورةٍ واضحة، وذلك ليس بالنظر إلى طلاب الجامعات في الدول العربية والإسلامية، بل إلى الحركات الطلابية في كبريات الجامعات الأميركية والبريطانية والفرنسية.
إنها واحدة من أكثر ساحات المواجهة تبشيراً، وهي محلّ استثمارٍ بالرأي العام العالمي مستقبلاً يجب أن يؤخذ بجدية، وتتم رعايته وتطويره وتوسيعه، ووصل نموه واستمرار روحيّته في أسواق العمل، والتأثير لاحقاً.
الولايات المتحدة و”إسرائيل” ومؤيدوهم والمنطق الذي اعتمدوه لعقودٍ في خداع العالم باتوا أقلية تنعزل مع مرور الوقت. هذه كانت إحدى أهم مفاجآت الانعكاسات الأولية للحرب على غزة. نقول الأولية لأن ما سيأتي ويستمر أكبر وأعظم.
هذه حقائق الآن لا تفلح الصحافة الغربية في التهرب منها. آخر معطياتها ما نشرته صحيفة “بيلد” الألمانية من أن نسبة التعاطف مع “إسرائيل” انحدرت بصورةٍ دراماتيكية خلال شهرٍ واحد، وارتفعت نسبة التأييد للفلسطينيين في المقابل أضعافاً.
يحدث هذا بينما تدير “إسرائيل” حملةً إعلامية مدفوعة في الغرب لتجييش الرأي العام وحشد التعاطف؛ حملة تحدث عنها مؤثرون في وسائل التواصل شرحوا كيف عرضت عليهم الأموال لتأييد الموقف الإسرائيلي، وتظهر في الإعلانات المدفوعة التي تبرز لمواطني البلدان المستهدفة بصورةٍ رئيسة، وهي في أوروبا الغربية: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. على الرغم من ذلك، التظاهرات تشير إلى عكس الأثر في الرأي العام.
معركة الرأي العام هذه ليست سهلة. ومع أن تقدماً كبيراً حققته القضية الفلسطينية فيها، إلا أن شركات وسائل التواصل الاجتماعي بمعظمها تمارس القمع العنيف للآراء المؤيدة للفلسطينيين. ولولا أن الأغلبية العالمية المنتفضة على ذلك عارمةٌ وطاغية، لما وصل صوت فلسطين إلى العالم كما يحصل الآن. هذا يقود إلى الاعتقاد بأن ما نراه من استنكارٍ وغضب من الممارسات الإجرامية الإسرائيلية لا يمثل سوى جزء يسير من مجمل التعاطف والدعم العالميين للقضية المحقة للفلسطينيين.
يحدث ذلك ونحن نتحدث عن دول وشركات وشعوب فقط، لكن أين المنظمات الدولية؟ هذه في الواقع مفاجأة متوقعة. هي متوقعة بحقيقتها، ومفاجِئة بدرجة وضوحها. لا تبدو قرارات الأمم المتحدة ووكالاتها، فضلاً عن مواقفها الحالية، ذات أهمية لمن يريدون استمرار العدوان الإجرامي على الشعب الفلسطيني.
الأمين العام للأمم المتحدة يحاول جاهداً أن يكون متوازناً في موقفه، ولا يريد إغماض عينيه عن صور الشهداء الفلسطينيين. يذكرهم ويشير إليهم، ويطلب من “إسرائيل” التوقف عن قتلهم، لكن ماذا يحصل بعد ذلك؟ لا شيء؛ لا شيء سوى خروج المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي بوقاحة وصلافة، ليقول إن الموقف السابق الذي أعلنه بأن بعدم وجود خطوط حمر أمام “إسرائيل” لا يزال سارياً!
لا توجد خطوط حمر إذاً أمام قوة تعترف الآن بأنها نووية، في مواجهة شعبٍ محاصر يحاول مقاومة هذه القوة منذ 75 عاماً. إذاً، ما يقوله البيت الأبيض يطغى على ما تقوله الأمم المتحدة، خصوصاً مع انهيار مجلس الأمن بصورةٍ شبه دائمة الآن، إذ لا إمكانية لاتفاق الدول الخمس دائمة العضوية على أيّ قضية في العالم.
إنها قسمة جديدة في المنطقة، وحول العالم. الشعوب في مكان، والنخب في مكان آخر، والكثير من الدول في الغرب لا تزال ممسوكةً بالنخب المدموغة بالختم الأميركي، لكن الشعوب تأخذ مساراً مختلفاً.
وإن كانت الحرب في أوكرانيا قد شكلت مفصلاً وتحولاً في اتجاه دول الجنوب العالمي بعيداً من الغرب، فإن الحرب المجنونة على غزة هي المفصل الذي يأخذ الشعوب الغربية بعيداً من حكام دولها، والأمر واقعي. إنه يحصل.
المسألة ليست تعاطفاً فحسب؛ فالظلم بدرجته الشيطانية، كما تمارسه “إسرائيل”، لا يمكن إلا أن يحدث انقلاباً حاداً ويهز النفوس البشرية السليمة. كما أنَّ للمسألة ارتباطاً حقيقياً بالأمن القومي في الدول الغربية، إذ إن “إسرائيل” في أساسها وليدة للمسألة اليهودية في أوروبا، وهي معضلة سياسية واقتصادية واجتماعية أوروبية تاريخية، ولم تكن من قبل مشكلةً شرق أوسطية أو مشكلةً عربية أو إسلامية، ذلك أن الأقليات اليهودية من أبناء المنطقة عاشت على الدوام تحت حكم إسلامي ولم تتعرَّض لما تعرَّضت له في أوروبا التي تطلب الآن الغفران منهم على حسابنا.
وها هي المسألة اليهودية تعود اليوم بآثارها الارتدادية إلى أوروبا الغربية نفسها لتطرح سؤالاً مركزياً: هل تفضل أوروبا معالجة المشكلة التي صدرتها إلى الشرق الأوسط في مكانها من خلال موقف رافض لجرائم كيان الجريمة المستمرة أم أنها سوف تعيد استيراد هذه المشكلة مجدداً؟
المصدر : الميادن