لبنانيات

في قامتك.. تجسّد تاريخ الإباء لصناعة العزّة يا “فؤاد المقاومة”

“التاريخ يُقرأ “رتلًا” بعد أن يرمّم ويربط، ولا يمكن قراءته آحادًا وأحداثًا متفرّقة، بل يجب ربطها (الأحداث التي صنع منها التاريخ) كمجموعة متراصّة، لها مقدمة وجسم ونهاية، يجمعها نسق عام، وليس هناك من شيء يحدث بنحو عبثي”. 

بهذه المقولة للسيّد فؤاد شكر – بتصرّف – يقارب الآية الشريفة “…وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا [سُورَةُ المُزَّمِّلِ: ٤]”، ينشد الكلام بـ”الدليل والبرهان”، مع تنبيهه بوجوب “أن لا يقتصر على التوثيق وبما هو مكتوب”، مؤكّدًا على “ضرورة الوضوح بالاتّجاه البحثي التاريخيّ دون عزله عن المسار القائم بغضّ النظر عن تجلّياته المختلفة، فلا يمكن مقاربة الموضوع قيد البحث دون الجذر التاريخي والعقائدي والرابط الذي يلتقي فيه على أمر واحد، مهما كانت زاوية التباعد – ما لم تكن عموديّة – قبل الالتقاء على نقطة واحدة مع مرور الزمن”. وكان يتأبّى وضع أسئلة والمرور عليها من خلال محطّات صغيرة، أو متفرّقات معيّنة، فالتشعّب بالنسبة له قد يفقد الإجابة نقطة الارتكاز، ويرى أنّ ميزة الباحث في كيفية ضبط المسائل والاقتراب من تلك النقطة بمقاربة إنسانيّة ودينيّة وجغرافيّة وفكريّة جامعة.

امتاز الشهيد بعقل دقيق، مع حرصه في نقل ذلك إلى مستمعيه، وكأنّه يمارس تربية بالقدوة على مستوى نمطه بالتفكير. كان مهندسًا في فنون البحث، يصرّ على ضرورة الذهاب إلى تحديد مفصلين، “المفصل القبلي، الذي تغيّر أولًا”، من أجل الوصول إلى “المفصل البعدي”. يتحفّز في بناء الموضوع وموقعه والظرف الذي كان موجودًا، على أسس وافية. على سبيل المثال، يتناول موقع الدول المؤثّرة في سياقات تاريخيّة مختلفة، ورؤيتها من الموضوع المبحوث، وموقعه الجيوسياسي والفكري والعقائدي والشعبي والتاريخي ليبنى على الشيء مقتضاه. وفي حبكة الفهم، يتناول المسألة وفق جدليّة الوحدة والانفصال حتّى يستقيم التفسير؛ كأن يستحضر من التاريخ حادثة صفّين؛ فلا تغيب عنه فرضية اجتياح بلاد المسلمين عند فرض الغلبة، فالنصر التكتيكي “الشعبوي” قد يستدرج هزيمة استراتيجيّة ويبرز كمشهد مأساوي. ومن هنا تنبيهه إلى مشاكل قراءة التاريخ كأحداث متفرّقة، منقوصة الإحاطة والشمول.

في مبناه ودقّته العقليّة، يتّخذ من اللغة أساسًا لانتخاب عبارته، بعد أن يعود بمفرداتها إلى جذورها اللغويّة، وإلى حضورها في النصوص الشريفة، وما تضيفه إلى المعنى في حقل استعمالها أو مقاربتها.

تجده شغوفًا برحلته الممتعة عبر عودته إلى الجذور لغةً أو تاريخًا أو عقيدةً. ودائمًا ما يقوده اعتناقه للمنهج السننيّ إلى ما يورث في قلبه الاطمئنان، هذا المنهج الذي يرتكز منطقه على إيمانه البرهانيّ والوجدانيّ والقرآنيّ والسنّتيّ – السيرة والأحاديث الشريفة – وفق قواعد علميّة صلبة ومتينة، وعلى ضوئه يقترب من الواقع والوقائع بعقلانيّة متوافقة مع تلك الأصول والمباني والرؤى والحقائق.

كان يغوص في الدعاء فيعثر على أنفاسه في محضر معشوقه الإمام الحسين (ع)، وهو يلهج بدعاء عرفة من كلّ أعماقه: “إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ فاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ، أَيَكُونُ لِغَيْركَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟ مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ، وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟”، هذا المعشوق الذي جعله يوظّف كلّ علومه وتجاربه العسكريّة ومعارفه الدينيّة وحنكته السياسيّة ومقاربته التاريخيّة في فهم واقعة كربلاء بكلّ حِرَفِيّة تتكامل معها تلك المداخل فتنسج من الحادثة مشهدًا كاملًا منسجمًا. وهذا المعشوق الذي يجعله يأتيه حافي القدمين أو جزءًا من الذين يتلقون الخطاب العاشورائيّ والدمعة السخيّة ويشارك بحماسة في حلقات وهيئات اللطم – لاحقًا -، ويتّخذ من تربة ضريح سيّد الشهداء (ع) وسيلة شفاء وقُرب.

في بنائه للمجاهدين، لم يكن يتورّع عن إطلاق “الطلقات الرحيمة” بالقرب من أماكن انتشارهم المفاجئ في عمليّات التدريب، وذلك حتّى يحسنوا الاختباء والاستتار والتمويه، وبالتالي حتّى يستكملوا جودة المناورة واحترافيّة القتال وإتقان فنونه ومهاراته الفائقة، مع ثقته العاليّة واعتداده بعدم الأذية لأيّ منهم، فتاريخه كلّه عبارة عن فدائه لهم، وهو صاحب المخاضات الأولى عند بوّابة خلدة، وما بعد بعد.
شكّل “التوحيد الأفعالي” في عقيدته وسيرته ومسيرته وبيانه، أساسًا عقائديًّا وإيمانيًّا وثوريًّا إعداديًّا لكوكبة الاستشهاديّين وكوادر من المجاهدين، ونقطة ارتكاز ولائيّة في فعاليّة الجماعة المؤمنة وحمايتها من الانشقاقات والانحرافات، وفي نموّها وتوسّعها وتماسكها واقترابها من أهدافها بإخلاص وسداد، كما شكّل “التوحيد الأفعاليّ” ركنًا مركزيًّا في منهجيّته لبناء القادة والعلاقة التبادليّة بين الوليّ والمولّى عليه واتّخاذ القرار، ومدماكًا جوهريًّا في تشكّل محور المقاومة، وروحه السارية والعابرة أفقيًّا للجغرافيا والبالغة أعنان السماء.

نمْ قرير العين يا سيّد محسن، فإن إخلاصك حال دون أن تعاين حصاد بأسك الشديد، إنما هذا الفناء في الحب سيأتيك بالخبر اليقين، لطالما أقسمت وسط المقاومين بارتفاع الراية الصفراء “على بيت المقدس” و”مسجد الصخرة”، والوفاء لك بإبرام القسم وخفقة العلم.

إن قامتك جسّدت تاريخ الولاء والإباء لصناعة العزّة؛ وإن العزّة التي أسقيتها دماك هي بعين الله، وما لله ينمو يا فؤاد المقاومة.

 

المصدر : العهد الاخباري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى