الاقتصاد المقاوم: رؤية إسلامية لمواجهة التحديات الاقتصادية
في عالم يتسم بالتقلبات الاقتصادية والصراعات المتعددة، يبرز مفهوم “الاقتصاد المقاوم” كسبيل لمواجهة هذه التحديات. هذا المفهوم، المتجذر في الرؤية الإسلامية، يركز على بناء اقتصاد يعتمد على الذات وقادر على التكيّف مع الصدمات الخارجية. يقدّم آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي نظرة معمّقة حول كيفية تحقيق هذا الهدف من خلال دمج القيم الإسلامية في السياسات الاقتصادية، وتشجيع التفاعل المجتمعي لتبنّي ثقافة الاستهلاك المسؤول والإنتاج المحلي.
يهدف الاقتصاد المقاوم لخلق بيئة اقتصادية مستدامة تعزّز من استقلالية الأمة وتوفر سبل العيش الكريم لجميع أفراد المجتمع.
تعدّ منهجية الإمام الخامنئي في تأسيس الاقتصاد المقاوم استراتيجية شاملة تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة في مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية. تعتمد هذه المنهجية على أربعة محاور أساسية:
تطوير نظرية اقتصادية مبنية على القيم الإسلامية،
توفير الموارد البشرية والمادية اللازمة،
وضع سياسات اقتصادية متينة،
تغيير السلوكيات الاقتصادية للمجتمع.
هذه الاستراتيجية تسعى إلى تعزيز العدالة الاجتماعية، دعم الاقتصاد المحلي، وتحقيق استقلالية اقتصادية تضمن التنمية المستدامة. من خلال تطبيق هذه المنهجية، يمكن تحقيق اقتصاد مقاوم يتسم بالقوة والمرونة، قادر على مواجهة التحديات.
وفي هذا السياق، نظّم مركز الأبحاث والدراسات التربوية ندوة بعنون “التربية على المقاومة الإقتصادية” حاضر فيها مدير معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور علي زعيتر، ومدير المركز الإستشاري للتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله بحضور المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان السيد كميل باقر ومدير مركز الدراسات والأبحاث التربوية الدكتور عبد الله قصير وجمع من الفعليات من التخصصين والشخصيات الثقافية.
د. زعيتر: الاقتصاد المقاوم يحتاج إلى منهجية بحثية واضحة
وقدّم الدكتور زعيتر خلال مشاركته رؤية معمقة حول مفهوم الاقتصاد المقاوم، أظهر من خلالها أن الاقتصاد هو عنوان إشكالي وتخصّصي يتطلب مقدمات ومعارف عميقة لفهمه وتطبيقه، ويوضح أن الحديث عن الاقتصاد المقاوم والإسلامي ليس مجرد عناوين، بل يتطلب فهمًا نظريًا عميقًا.
وتحدث عن نظرية الاقتصاد المقاوم التي طرحها الإمام الخامنئي، مشيرًا إلى أنها تهدف إلى تأسيس مذهب اقتصادي أو سياسات اقتصادية مبنية على الرؤية الإسلامية في إدارة شؤون الحياة المادية، معتبرًا أن هذه النظرية ليست مجرد رؤية اقتصادية بل تتطلب بحثًا أكاديميًا عميقًا.
وتحدث الدكتور زعيتر عن تجربته الشخصية في متابعة هذه النظرية من خلال الأبحاث النظرية والتطبيقية التي جرت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي تظهر أن الاقتصاد المقاوم يحتاج إلى منهجية بحثية واضحة وخلاصات عملية لتحقيق أهدافه من خلال سياسة الاقتصاد المقاوم التي قدمها الإمام الخامنئي والشهيد الصدر هي الأكثر متانة على مستوى الرؤية الاقتصادية.
وأشار الدكتور زعيتر إلى أهمية الربط بين الاقتصاد والتربية، مؤكدًا أن هناك مصطلحين هامين في هذا السياق هما “التربية الاقتصادية” و”الاقتصاد التربوي”، وكلاهما يهدف إلى دمج القيم الاقتصادية في العملية التربوية لتعزيز الفهم الاقتصادي لدى الأجيال الناشئة.
وتابع الدكتور زعيتر بتقديم رؤية شاملة حول كيفية تطبيق هذه المفاهيم في العملية التربوية، ولفت إلى أن التربية الاقتصادية يجب أن تتضمن تعليم الأطفال والشباب مبادئ الاستهلاك المسؤول، والإدارة الجهادية، وتعزيز ثقافة العمل والعدالة الاجتماعية. كما يؤكد على ضرورة مشاركة الناس في تحقيق هذه الأهداف من خلال المبادرات المجتمعية والمدارس الخيرية.
ورأى أن الاقتصاد المقاوم يجب أن يهدف إلى تحقيق الاستقلال والنمو المستدام، ويجب أن يكون قادراً على التكيف مع الظروف الصعبة مثل الحصار والنزاعات الاقتصادية، وأن يساعد في ازدهار البلاد وتحقيق التنمية المستدامة.
وأوضح الدكتور زعيتر أن تطبيق هذه الرؤية يتطلب سياسات واستراتيجيات واضحة على مستوى التعليم والتربية، وأن يكون هناك تعاون بين جميع الأطراف المعنية لتحقيق الأهداف المنشودة لهذا النهج الذي يمكن أن يؤدي إلى بناء اقتصاد قوي ومستدام قادر على مواجهة التحديات وتعزيز الازدهار الوطني.
استطلاع يبرز توجهات الناس نحو الاستهلاك والإنتاج والمقاطعة
ضمن فعليات الندوة، عرض الباحث في مركز الأبحاث للدراسات التربوية الدكتور عبد الجواد قصير، استطلاعًا شاملاً حول اتجاهات الناس نحو الاستهلاك والإنتاج والمقاطعة، وذلك لمعرفة كيفية تفكير الناس واتجاهاتهم حيال هذه المواضيع الحيوية.
بحسب الدكتور قصير، أجري الاستطلاع في الفترة ما بين 10 و23 تموز، بمشاركة 664 مستطلعًا من البيئة المحيطة. توزعت العيّنة بنسبة 60% ذكور و40% إناث، وشملت فئات عمرية متنوعة، حيث تراوحت أعمار المشاركين بين 20 سنة وما فوق الخمسين سنة، مع نسبة صغيرة من الشباب بين 15 و19 سنة. وبالنسبة للوضع الاجتماعي، كانت الأغلبية من المتأهلين مع نسبة مقبولة من العزاب. أما من حيث المستوى العلمي، فقد بيّنت النتائج أن النسبة الأعلى من المستطلعين كانت من طلاب الإجازة والدراسات العليا، مما يدل على ارتفاع المستوى العلمي في المجتمع.
وأظهر الإستطلاع أن المنتج الأجنبي يتفوق بفوارق كبيرة تصل إلى 34% في معايير الجودة والتناسب مع الحاجة والوفرة والشكل الجاذب والترويج. ورغم هذا التفوق، إلا أن ذلك لم ينعكس على خيارات المستهلكين، حيث كانت نسبة الشراء بين المنتجات الوطنية والأجنبية متقاربة ودفع سعر المنتج الوطني المستهلكين لشرائه أكثر من الأجنبي، وأعطوا أولوية لشراء المنتج الوطني بفارق كبير عن الأجنبي.
أما فيما يتعلق بأولويات الاستهلاك، جاءت على رأسها الضروريات مثل الطعام والشراب داخل المنزل، الصحة، التعليم،المسكن وخدماته، بينما لم تحظَ الكماليات بأولوية عالية بحسب الإستطلاع ما يظهر أن هذه النتائج تشير إلى توجه المستهلكين نحو استهلاك الرشيد والتركيز على الأساسيات.
وحول مقاطعة المنتجات الداعمة لكيان العدو، فقد أظهرت النتائج أن معظم المستطلعين يمارسون المقاطعة، مع ربط أكثر من ثلثهم التزامهم بتوفر البديل، نسبة الذين لا يبالون بالمقاطعة كانت 2.6% فقط. وبيّنت النتائج أن المنتجات الأكثر شراءً من شركات داعمة هي الحواسيب والهواتف والأدوات الكهربائية، في حين كانت نسبة شراء الكماليات مثل الأطعمة والمشروبات ومستحضرات التجميل والعطورات والثياب تفوق نسبة شراء الأساسيات، نظرًا لتوفر بدائل محلية.
كما لوحظ من خلال الإستطلاع أن الذكور يعتبرون المنتج الأجنبي أكثر جودة مقارنة بالإناث، ويميلون لشراء مستحضرات التجميل والعطورات والثياب من شركات داعمة للكيان أكثر من الإناث. بينما تميل الإناث لشراء الأدوات الكهربائية التي تنتجها شركات داعمة للكيان أكثر من الذكور، ويفضلن المنتج الوطني بسبب جودته أكثر من الذكور.
يعتبر المتزوّجون والمستطلعة آراؤهم أن المنتج الوطني يمتاز بالشكل الجاذب ويتم الترويج له أكثر من العزاب،فيما يميل العزاب لشراء مستحضرات التجميل والثياب والعطورات من شركات داعمة أكثر من المتأهلين، ويفضلون المنتجات الأجنبية بسبب جودتها وشكلها الجاذب.
وبيّن الدكتور قصير كلما زاد عمر المستطلع، ارتفع مستوى اعتباره أن المنتج الوطني يمتاز بالجودة والشكل الجاذب، ولكنه يقلل من اعتباره أن المنتج الأجنبي يمتاز بهذه الصفات. كما يقلل التقدم في العمر من أولوية الكماليات ويزيد من التركيز على الأساسيات.
وخلص الاستطلاع إلى وجود وعي عام بأهمية المقاطعة، مع تركيز المستهلكين على الأساسيات أكثر من الكماليات نتيجة للأزمة الاقتصادية و تقدم المنتج الوطني في عدة ميادين، مما يشير إلى إمكانية تعزيز الصناعة الوطنية ورفع جودتها، والعمل على تهيئة الأرض للتوسع في حملات المقاطعة وفضح الشركات الداعمة للعدو.
د. فضل الله: المقاطعة تكون فعّالة خلال الأزمات
بدوره، سلّط مدير المركز الاستشاري للتوثيق الدكتورعبد الحليم فضل الله الضوء خلال مشاركته على مفهوم المقاومة الاقتصادية وأبعادها المختلفة، وأوضح أن الاقتصاد ليس مجرد نشاط مادي يتعلق بالإنتاج والاستهلاك والإنفاق، بل هو مرتبط بشكل وثيق بالتصورات الاجتماعية والثقافية والتربوية التي تحدد نوع الاقتصاد الذي نريده ومعنى الممارسات الاقتصادية التي نقوم بها.
وأكد الدكتور فضل الله أن تحقيق مقاومة اقتصادية يتطلب المرور بأربع مراحل أو مسارات أساسية:
1. المفاهيم النظرية:الحاجة إلى تطوير نظرية للمقاومة الاقتصادية، حيث شرح الدكتور علي زعيتر نظرية الاقتصاد المقاوم التي أسس لها السيد القائد. هذه النظرية تهدف إلى مقاومة الدول والمجتمعات اقتصادياً وتعبر الحدود بأفكار اقتصادية إسلامية.
2. الموارد المتاحة: لا يمكن تحقيق مقاومة اقتصادية دون توفر الموارد اللازمة. بيّن الدكتور فضل الله هنا أن التربية والثقافة تساهم في تغيير المفاهيم الاقتصادية، ولكن بدون الموارد المتاحة لا يمكن تنفيذ هذه المفاهيم.
3.السياسات: أكد الدكتور فضل الله أن تغيير السياسات الاقتصادية ضروري لتحقيق مقاومة اقتصادية فعالة. وأوضح أن السياسات المالية والنقدية هي أساس في هذا السياق، مشيرًا إلى أن تغيير بسيط في الرسوم الجمركية يمكن أن يكون له تأثير أكبر من آلاف ساعات التوعية.
4.السلوك الاقتصادي: لا يمكن تحقيق مقاومة اقتصادية إذا لم يتغير السلوك الاقتصادي للمجتمع. أشار الدكتور فضل الله إلى أن النمط الاستهلاكي يجب أن يتغير ليكون أكثر رشداً وفعالية.
كما تناول الدكتور فضل الله موضوع العدالة في توزيع الموارد، مشيرًا إلى أن عدم العدالة يزيد من الفقر ويؤثر سلباً على النمو الاقتصادي. وأضاف أن التلوث البيئي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند حساب معدلات النمو والإنتاج.
ولفت الدكتور فضل الله إلى أهمية العمل التطوعي وتأثيره الإيجابي على الاقتصاد، موضحًا أن العمل التطوعي لا يظهر في القياسات التقليدية للناتج الاقتصادي ولكنه يلعب دورًا مهمًا في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
كما تطرق الدكتور فضل الله إلى المقاطعة وأهميّتها في دعم المقاومة الاقتصادية، مشيرًا إلى أن المقاطعة تكون فعّالة خلال الأزمات ولكن تحتاج إلى تفعيل دائم لتكون جزءًا من الثقافة الاقتصادية، مؤكدًا على ضرورة التفكير النظري والتخطيط العملي لتغيير السياسات والسلوكيات الاقتصادية لتحقيق تنمية مستدامة وعدالة اجتماعية.
السيد باقر: منهجية الإمام الخامنئي في تأسيس الاقتصاد المقاوم تعدّ استراتيجية رائدة لتحقيق التنمية المستدامة
من جهته، المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية في لبنان السيد كميل باقر، أوضح في مداخلة خلال الندوة أن مفهوم “الاقتصاد المقاوم”،هو مفهوم حيوي في الرؤية الإسلامية من شأنه مواجهة التحديات الاقتصادية التي نواجهها في عصرنا هذا، خاصة بعد أن أظهرت التجارب التاريخية والمعاصرة أن الاقتصاد الذي يعتمد بشكل كبير على القوى الخارجية يكون هشاً وعرضة للصدمات. لذلك، جاءت رؤية “الاقتصاد المقاوم” كاستجابة للتحديات الاقتصادية والسياسية التي نعيشها.
وأشار إلى أن الاقتصاد المقاوم هو رؤية متكاملة تهدف إلى تعزيز الاعتماد على الموارد المحلية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد. هذا يتطلب تطوير القطاعات الإنتاجية المحلية، وتشجيع الابتكار، ودعم الصناعات الوطنية. إن الاقتصاد المقاوم ليس مجرد سياسة اقتصادية، بل هو نهج شامل يتطلب التعاون بين جميع فئات المجتمع من أجل تحقيق الأهداف المشتركة.
كما أن الرؤية الإسلامية للاقتصاد المقاوم بحسب السيد باقر تركز على تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات بشكل عادل، مما يساهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. هذه الرؤية تسعى إلى بناء مجتمع قوي ومتماسك قادر على الصمود في وجه التحديات الاقتصادية العالمية.
كما شدد على أن منهجية الإمام الخامنئي في تأسيس الاقتصاد المقاوم تعد استراتيجية رائدة لتحقيق التنمية المستدامة في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة،إذ أن هذه المنهجية تستند إلى مبادئ الإسلام وتستهدف تحقيق استقلالية الاقتصاد الوطني وتعزيز قوته.
المصدر : العهد الاخباري