إرادة الصمود والتحدي.. سرّ التفوق لدى طلاب قرى المواجهة
النصر فواح جنوبًا في كل الميادين والحقول. هذا الأمر ليس أجنبيًا وغريبًا عن أرضٍ خَبر أهلها النصر جيلًا بعد جيل، أساتذة وطلابًا من كل الفئات العمرية، فكانوا نبراسًا يقتدي به كل طامح نحو المجد والعلى.
هؤلاء صمدوا في كل الامتحانات، فظفروا بالفوز والتفوّق، وقدّموا شهادات كرّموا بها أوطانهم، وحفّزوا كل عابر على مسار الصمود على مواصلة صموده حتى النصر الكبير.
يحق لكل من يهمه الأمر، ويقرأ هذه السطور أن يسأل عن هوية هؤلاء. سردية التعريف بهم تأخذنا إلى النظر إلى الظروف القاسية والأحداث الأمنية الصعبة التي عايشوها خلال استعدادهم للتقدم للامتحانات المهنية الرسمية في لبنان.
نتحدث عن طلاب الجنوب الذين عايشوا أشهر نزوح صعبة بفعل العدوان الصهيوني الهمجي، والدمار الذي خلفه في القرى الجنوبية عند الحدود المتاخمة لفلسطين، فمنهم من قرّر الصمود بالبقاء، ومنهم من ترك منزله مُكرهًا حاملًا معه أمل العودة وإرادة الحياة التي لا تُهزم. طلاب الجنوب لم يكونوا بمنأى عن الخطر، فهم مستهدفون أيضًا، شدّوا الرحال وحملوا ما أمكنهم من متاع وثياب وكتب بحثًا عن مكان أكثر أمنًا يخوّلهم متابعة تحصيلهم العلمي، وعقدوا العزم ووضعوا هدف النجاح نصب أعينهم وعمدوا إلى تحقيقه بكلّ تحدٍّ وإصرار.
كل آلة الحرب “الإسرائيلية”، وعيون العدوّ المتربصة بالجنوبيين وأهله وطلابه، والتهويل بحرب واسعة على لبنان.. لم تمنع طلاب الجنوب من تحقيق ما كانوا يصبون إليه من نجاح وتألّق وتميّز، حتّى نالوا المراتب الأولى في لبنان بعدد من الاختصاصات في امتحانات الشهادات الرسمية المهنيّة، فكانت بمثابة صفعة قوية للعدوّ ولكل من راهن على ضعفهم أو خوفهم أو فشلهم.
عدد من أبناء البلدات الجنوبية حلّ في المراتب الأولى في نتائج الامتحانات الرسمية المهنية، فحلّت في المرتبة الأولى في شهادة البكالوريا الفنية (BT3) على صعيد لبنان في اختصاص “المسرح والفنون الجميلة” الطالبة فاطمة علي الجواد (من بلدة حومين الفوقا)، كما حلّت في المرتبة الأولى في شهادة الامتياز الفني (TS) في اختصاص “الرقابة الصحية وسلامة الغذاء” الطالبة حنان حمدان (من بلدة حومين التحتا ومقيمة في حولا، ونازحة حاليًّا)، وفي المرتبة الثانية في الاختصاص نفسه، حلّت الطالبة مريم شيت ابنة كفر كلا، وفي اختصاص علوم مختبرات طب الأسنان، وحلّت في المرتبة الأولى على صعيد لبنان ابنة عيتا الشعب نور جواد، كذلك حلّت رباب فارس ابنة كفر كلا في المرتبة الأولى في اختصاص التربية المختصة.
فما حكاية صمود تلك الفتيات التي تُوّجت بالتفوّق، ليعتبر منها كل طالب يتذرّع بالظروف التي تمنعه من النجاح؟ أما من يتهم هذا المجتمع بأنه مجتمع ثقافة الموت فلينظر إلى مجتمع المقاومة هذا الذي يواجه القتل “الإسرائيلي” بإرادات صلبة جبلّتها ثقافة الإنسانية والحياة الطيبة والكرامة والتميّز والعنفوان والإباء.
فاطمة الجواد لموقع العهد الإخباري: “منذ بداية العدوان الصهيوني على القرى الحدودية انتابنا القلق من فقدان العام الدراسي، ولكن لله الحمد وبفضل المجاهدين الذين استطاعوا أن يكرّسوا معادلة الردع مع العدوّ الصهيوني، بدأنا عامنا الدراسي تحت صوت القصف، وتحت خطر المسيّرات، وعلى وقع (جدارات الصوت) التي كانت تسبب لنا الإزعاج وعدم التركيز أحيانًا، لكنّ معنوياتنا كانت أقوى ولم نتأثّر” .
فاطمة الجواد
نور ابنة بلدة عيتا الشعب، لم تكن بمنأى عن الخطر، كانت ظروفها قاسية أيضًا، فبسبب العدوان وعدم توافر اختصاص “علوم مختبرات الأسنان” في مهنيات الجنوب، تابعت دراستها في مهنية “بئر حسن” في الضاحية الجنوبية لبيروت، وأقامت لدى خالتها في المريجة في الأشهر الثلاثة الأولى للعدوان “الإسرائيلي”، وبعد أن نزحت عائلتها وعدد من أقربائها إلى الضاحية أقاموا معها في نفس المنزل المؤلف من غرفتين ما انعكس سلبًا على الجو العام للدراسة ناهيك عن الانقطاع المتكرّر في شبكة الانترنت والتوتّر بسبب التفكير الدائم بقريتها وما تتعرّض له من دمار متعمّد من العدوّ.
نور جواد
لاحقًا، عادت عائلة نور إلى الجنوب، وسكنت في معروب (قضاء صور)، فيما اضطرّت نور للبقاء في بيروت لمتابعة دراستها. تشتّت العائلة أدى إلى تشتّت ذهنها وتركيزها أحيانًا كثيرة، ما دفع بها للذهاب إلى معروب حيث انتقلت وعائلتها إلى منزل آخر دون أثاث ما زاد الأمر صعوبة، لكنّ نور ازدادت إصرارًا وعزمًا.
رباب فارس تشاطر نور وفاطمة الرأي، فهي عانت ظروفًا مأساوية صعبة أيضًا كانت مصدر قوة وتحدٍّ لها، حيث كان لتدمير منزلها في كفر كلا أثره البالغ في نفسها فضلًا عن أنها تتابع دراستها في معهد بمدينة النبطية إلا أنّها اضطرّت إلى النزوح إلى بيروت الأمر الذي منعها من متابعة دراستها لفترة طويلة قبل أن تعاود الانتقال إلى قرية كفر تبنيت المجاورة لمدينة النبطية بيد أنّ الوصول إلى المعهد لمتابعة الدراسة بقي متعذّرًا وصعبًا فلم تتمكّن رباب من الحضور بشكل يومي ومتواصل.
رباب فارس
ووفق فاطمة، فإنّ الدافع الأساس للتميّز في ظل هذه الظروف الأمنيّة الصعبة كان الجو المقاوم وإرادة الصمود والتحدي حيث رأت أنّ “الحرب ليست مبررًا للاستسلام وتحقيق غاية العدوّ، فالمجاهدون على الحدود يعرّضون حياتهم للخطر ويستشهدون، من أجل من؟ من أجلنا لنعيش، من أجل أن نتابع حياتنا ودراستنا، ونحقق أحلامنا ونظلّ محافظين على قضيتنا وعلى هذا الخط والنهج المحمدي الحسيني الأصيل”.
وتتفق الطالبات المتميّزات على أنّ العلم وتحصيل المعرفة وتحقيق النجاح جهاد من نوع آخر، فبموازاة الملاحم البطولية التي يسطّرها المجاهدون عند الحدود الجنوبية، عملن جاهدات لتحقيق نصرٍ يعلو على أصوات الصواريخ وجدار الصوت، ويفقأ أعين العدوّ المتربصة بالجنوب وأهله وناسه وطلابه.
وبحسب فاطمة فإنّ “الجهاد ليس فقط سلاحًا أو مجاهدًا في أرض المعركة، فالإنسان قادر على الجهاد في كلّ شيء، وأهم أنواع الجهاد هو العلم. العلم هو سلاحنا، وفي أي مجال كان، سواء في الطب، أو في الهندسة، والإعلام، والفنون.. وخصوصًا في مجال تخصّصي، إذ أرى أن بإمكاني خدمة القضية بشكل كبير وتوصيل رسالتنا من خلاله. يمكننا القول إنّ هذا أكثر ما يمنحني شغفًا اتّجاه تخصّصي”.
وأجمعت الفتيات على إهداء تفوقهنّ إلى سيد المقاومة، سيد النصر والإرادة والشهامة والعز والفخر والكرامة، كذلك إلى الشهداء والجرحى والمجاهدين، وأكدن أنّه لولا دماء جميع شهداء المقاومة الإسلامية لما تبقّى وطن ولا كنا حقّقنا نجاحات واحتفلنا بهذا الشكل.
المصدر : العهد الاخباري