تشرين غزة وأكتوبر العربي.. كيف سقطت “الأساطير” الإسرائيلية؟
في ذكرى حرب تشرين/أكتوبر التي خاضها الجيشان السوري والمصري ضد العدو الصهيوني 1973، ها هي غزة تطلق تشرينها بعد خمسين عاماً من التشرين المصري – السوري، وتشارك الجيش السوري رده على الاستهداف الصهيوني للكلية الحربية في حمص عبر الأدوات التكفيرية.
ذلك أن المقاومة في غزة جزء من محور المقاومة والممانعة، والكيان الصهيوني هو اليوم فعلاً كيان مؤقت على حد تعبير سيد المقاومة، حسن نصر الله، وفقد الكثير من شروط وظيفته الإقليمية في الأجندة الإمبريالية، ولم يبق منه إلا مساحة مؤقتة أيضاً تحت عنوان الإبراهيمية السياسية واتفاقياتها، لا سيما أن الوجود الإمبريالي برمته في الشرق الأوسط، يعيش حالة تصدع واضطراب ناجمة عن تخبط خياراته الأخرى وسط عالم جديد بين أوراسيا وبحر الصين، ناهيك بخساراته المتتالية في أميركا اللاتينية وأفريقيا.
وكما تشرين العربي الأول الذي أسقط الأساطير الإسرائيلية وقصر الرمال الذي بناه العدو بعد حزيران/يونيو 1967، ها هو تشرين غزة يسقط ما تبقى من ظلال لهذه الأساطير: “الجيش” الذي لا يقهر، الأمن الحديدي، وعدم ترك جثة واحدة في أرض المعركة، وكيّ الوعي ومحاولة تدجين الرأي العام الفلسطيني والعربي لقبول الوجود الصهيوني.
فها هي جثث جنود العدو وضباطه تتراكم على طرق المستوطنات، وها هو السافاك وأمان في أسوأ حال، وها هم جنوده أسرى بالعشرات في قبضة المقاومين، والأهم ما يترتب على الفشل الاستخباري المريع من فقدان الثقة وانطلاق موجات من الهجرة المضادة. أما على الصعيد العربي، فأهم نتيجة لتشرين غزة هو إحياء الثقة العربية بالقدرة على مواجهة العدو الصهيوني وهزيمته.
بالتأكيد لا نتحدث عن مواقف سياسية، لكننا نتحدث عن معايير وقواعد لم تعد محصنة أمام إرادة المقاومة، وبالتأكيد لا نستبعد محاولات بعض الأطراف توظيف ما جرى في سياق مشروع سياسي ما، لكن المسألة لم تعد متاحة بالسهولة السابقة، لا سيما أن غزة اليوم كما ذكرنا، موضوعياً وليس ذاتياً فحسب، أقرب إلى محور دمشق – الضاحية – طهران، والأهم من ذلك أن كل هذا الحضور المدوي للمقاومة في غزة وأبطالها، ما كان له ليحدث إلا على طريق واحد، هو الطريق من بيروت والشام، ورسائلها القوية التي جسدتها مخيمات وأحياء البطولة في جنين ونابلس والقدس وغيرها.
لقد أظهر الفلسطينيون روحاً وثّابة واستعدادات عالية للاشتباك مع العدو الصهيوني في أسوأ الظروف، لكن هذه التقاليد لم تترجم في حضور سياسي، أو رقم صعب في حلبة الشرق الأوسط، بعيداً من سوريا ومحور المقاومة والممانعة كما يحدث اليوم.
فلم تتسع ظاهرة المقاومة الفلسطينية في سنواتها المجيدة خارج دمشق ثم خارج الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تصاعدت على نحو معروف وأرّقت العدو سنوات طويلة، بل إن حركة حماس على سبيل المثال التي انبثقت من غزة، لم تأخذ شكلها اللاحق إلا بعد أن احتضنتها دمشق على غرار كل الفصائل الأخرى، من فتح إلى الجبهة الشعبية.
ولم تتراجع المقاومة وتضطرب بوصلة بعضها بين أوهام السلام وبين ربيع الفوضى، إلا بعد أن غادرت دمشق من بيروت على ظهر البوارج الأميركية والفرنسية، واختاروا لها منفى تونس زين بن علي وليس الجزائر التي كانت شريك دمشق في احتضان المقاومة ودعم انطلاقتها.
ولعل من أخطر النتائج التي ترتبت على التراجع واضطراب البوصلة، بالإضافة إلى أوهام السلام والتطبيع وتحويل القضية الفلسطينية من قضية مركزية للأمة إلى نزاع فلسطيني-إسرائيلي محدود، هو وقف الهجرات اليهودية إلى الخارج بل واستيعاب مئات الآلاف من اليهود الجدد.
وستمر سنوات عصيبة على هذا التيه، قبل أن تعود من جديد إلى دمشق – بيروت وتعود معها البوصلة التي تؤكد طبيعة الصراع مع العدو الصهيوني بوصفه القضية المركزية الأولى لكل العرب، وبوصفه تناقضاً تناحرياً أساسياً لا يحسم إلا بالقوة والاشتباك والإرادة الوطنية للقتال والتحرير.
هذه حقائق لا لبس فيها، لا من حيث الجغرافيا السياسية ولا من حيث ما حازته المقاومة من تجربة عسكرية وإمدادات غير محدودة بالأسلحة المتطورة والتجارب الكبيرة التي خاضها حزب الله وخاصة في تموز 2006، ولا من حيث جدل العلاقة بين المقاومة في فلسطين وأطراف معسكر المقاومة والممانعة الشعبية مثل حزب الله والرسمية مثل دمشق وطهران.
وليس بلا معنى هنا، أنه بالرغم من حملات التشكيك والتشويه المشبوهة والتحريض المذهبي، أن هذه الأطراف بالذات تعرضت ولا تزال لحملات واعتداءات وحصارات كبيرة بسبب هذا الموقف من فلسطين، فالاعتداء على سوريا وحصارها وكذلك حصار إيران والحملات ضد حزب الله، ليس أكثر من تعبير عن هذا الموقف.
المصدر : الميادين