لبنانيات

“أبو نعمة”.. والوسام الأرفع

نص بعضه مستعاد لحكاية واقعية تُروى؛ لكنه ليس ككل النصوص.. وكم تمنيت أن يبقى بطل الحكاية المدهش في تواضعه والثري في تجاربه سرًا من أسرار المواجهة في الحرب التي لمّا تحطّ رحالها بعد. إذ كنا على أمل لقاء آخر، وحكاية واقعية أخرى، تروي حكايات المواجهة في كل موقع، حكايات الانتصار المحقق حتمًا ويقينًا، هو ناتج طبيعي من إدارة الإنجازات اليومية على تلك الجبهة التي حشد على تخومها الجيش الأكثر قذارة، كل ما وصلت إليه التقنيات من تطور.

ذات ليلة كانونية؛ كان اللقاء مع الحاج أبو نعمة، القائد المجاهد المؤمن المتواضع كسنبلة في حقل مترامي الأبعاد، الشهيد في الميدان اغتيالًا، بعدما أعيا العدو طوال معركة “طوفان الأقصى”، وما قبل.

ذابت كل السيناريوهات المتخيّلة التي راودت الأذهان في الطريق إلى المكان المقصود على تخوم الجبهة لحظة دخول القاعة الرحبة بشغف اللقاء مع القائد الميداني، وهو منتصب القامة بلباس الميدان، مستقبلًا ضيوفه كالطود الشامخ المتواضع بانحناءة السنبلة، واضعًا يده مسلّمًا على الزوار، فردًا فردًا، وكأنّه على معرفة بكل واحد من الثلة. وإلى جانبه شاب بهندام أنيق متناسق لا يحتاج المرء كثيرًا ليدرك أنه يحوز على مدارك فنية وهندسية ليس من الدراسة فقط، وإنما من الميدان مباشرة.

يشرح القائد الميداني، والذي عركته تجارب الحروب على أشكالها وفي ساحات الاشتباك المختلفة، عن عمل جيش الاحتلال في الجهة المقابلة من الحدود والإمكانات البشرية واللوجستية والتبديلات التي يلجأ إليها مع كل تطور أو حدث ما. ويعدّد القائد أسماء ألوية فرقة الجليل والكتائب الملحقة، وعمل الاستخبارات وساعة التعديل العملاني، وعمل كل كتيبة بدقة متناهية نتيجة الجهد الاستعلامي للمقاومة، وكأنّ عينيه ترصدان المشهد من داخل قاعة قيادة الأركان الإسرائيلية. لا يتردّد القائد الميداني بالبوح بأنّ جيش العدو “الإسرائيلي” في حركة مستمرة، لكن القدرة على التكيّف العملياتي بالنسبة إلى المقاومة يجعل لها اليد الطولى في المعركة، لا سيما مقدرتها على استيعاب العبر بسرعة، وقد كانت لعملية “طوفان الأقصى” إلهاماتها المنيرة.

يجيب القائد الميداني الصبور عن بعض الأسئلة بأنّ المقاومة تتعاطى مع الجغرافيا والمنطق، ولديها يقين من خلال الوضع الميداني والمراقبة اللصيقة أن العدو في وضع “دفاعي”، وأنه بالرغم من توسيعه أحيانًا دائرة النار كون المنطقة كلها منطقة عسكرية وكل حركة بمثابة الهدف، لكنّه يدرك أنّ المقاومة لم تستخدم من قدراتها العسكرية شيئًا يُذكر، حتى من صاروخ البركان الذي استخدمت من أجياله الجيلين الأدنى، فما بال العدو بما خفي أمره من أجيال؟ ولم نتحدث عن أنواع وطرازات أخرى لم تظهر في الميدان أبدًا، فـ”كله في أوانه”؛ بحسب القائد و”نحن لسنا حتى الآن في المواجهة الواسعة، ولا نريد أن نظهر تكتيكاتنا، وقد عالجنا ما يجب معالجته من الحماسة والسرعة واستنساب الدقة، ونحن نقوم بالدرس والتقييم والإجراءات بما يتناسب مع الميدان والرد المتناسب ويدنا هي الأعلى”.

أكثر من ساعتين من الشرح تجعل المستمع أكثر رسوخًا ويقينًا بالنصر الآتي على أجنحة شهداء لم نعرفهم، لكنّنا عرفنا أحد قادتهم الذي يلوذ بكلمات سيد المقاومة اليقينية بالنصر الحتمي.

لم أقبل أن أصدق حين جاءني الخبر أنّ “أبا نعمة” هو المقصود بالشهادة..! مع أنّه يعرف أكثر من الجميع أنّها طريقه الوحيد. حبستُ الاختناقة، ولم أتمكّن من حبس دمعتين.

القائد الشهيد “أبو نعمة” على طريق القدس، قلّة كانت تعرف قدراته وحنكته في الميدان، إلا أن العدو الذي كان يتألم كل يوم من ضرباته، كان الأكثر إدراكًا حيال أي عقل وأي رجال يواجه.

ستنظر يا “أبا نعمة” من عليائك إلى أخوة الدم والتراب وتكون سيرتك نبراسًا يضيء ويلهم، ويبقى أمثالنا عالقين في حروف تخطّ ذكريات ومشاعر تهزّ أجسادنا في اقتحام الذاكرة الحصينة، ويستحيل محو مخزونها من ذكريات حفرتها كلماتك في عمق الأعماق.

الحاج “أبو نعمة”، عذرًا، في زمن الانحطاط العربي والقحط الوطني، مثلك لا يحتاج أعلى الأوسمة العسكرية والوطنية، فقد نلت وسام السماء الرفيع، إيمانًا وحبًا وتواضعًا، وتركت سنابلك لتنبت في كل المواسم، كما أنت.

يوم تشييعك المهيب وأنت مسجّى، لم تحد عيناي عن النعش، مع تزاحم الخواطر، واستعادة الذاكرة لتفاصيل اللقاء الممهور ختامه برجاء اللقاء اللاحق، لندون للأجيال حكايات مجد وبطولات ممهورة بسيل طهور من الدماء على أرض لبنان

 

المصدر : العهد الاخباري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى