إيران الإسلاميّة تُحبط رهانات أعداء الثورة
سطّر الشعب الإيراني، في يوميّ الجمعة 28 حزيران و5 تموز 2024، مشهدًا دافئًا وحماسيًّا مفعمًا بشعور المسؤوليّة، خلال مدّة قانونية قصيرة من إطلاق سباق الانتخابات الرئاسيّة، بعد المصيبة الجلل لفقد رئيسه الشهيد آية الله السيد إبراهيم رئيسي، محبطًا بذلك رهانات أعداء الثورة الإسلاميّة ومساعيهم في مقاطعة الانتخابات وبثّ اليأس والإحباط.
بين الحيويّة الذاتيّة التي تتمتّع بها الجمهوريّة الإسلاميّة لناحية ديناميّاتها في نضالها الثوريّ المستدام ضمن المجاليْن الإقليميّ والدوليّ، والبارزة في اجتماعها السياسيّ، وعزمها على ترسيخ هويّتها ومواجهة تحدّياتها وبلوغ الآفاق المرجوة بما يحفّز على التماسك المجتمعيّ وإحراز المزيد من التقدّم في الفكر والعلم والحياة والجوانب المعنويّة والروحيّة، ويعزّز المشاركة السياسيّة والتنمويّة والدفاعيّة، وبين الحيوية المؤقّتة التي وفّرتها الانتخابات الرئاسيّة الإيرانيّة تحت عباءة “الوليّ الفقيه” وفي إطار نظامها السياسيّ، برزت ثنائية المحافظة والإصلاح على مسرح المناظرة والتنافس في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي الرابع عشر. وكمنت في داخله مؤشّرات الانتظام السياسي المستجد ضمن نسق من العوامل الداخليّة والخارجيّة المتفاعلة مع سياقات الجمهوريّة الإسلاميّة، منذ نشأتها إلى اليوم، وخصوصيّة الانتخابات الرئاسيّة وموقعها منها.
الانتصار لإيران الإسلاميّة واليأس لأعدائها
بين الطب والحياة السياسيّة، تنقّل مسعود بزشكيان في عدد من المناصب الأكاديميّة والسياسيّة، ليحطّ أخيرًا في السباق الانتخابيّ رئيسًا تاسعًا للجمهوريّة الإسلاميّة، تحت قيادة الإمام الخامنئي. نجح الدكتور بزكشيان، وهو جرّاح القلب والسياسيّ البارز، في اكتساب 16,384,403 صوتًا إيرانيًّا في الجمهوريّة الإسلاميّة وفي قنصليّاتها وسفارتها، وبنسبة 53,67% من المقترعين في الجولة الثانية الانتخابيّة، بعد حصوله في الجولة الأولى على 10415991 صوتًا، وبنسبة 42,45%.
لقد كانت استطلاعات الرأي (برسش، شناخت، ايسبا، ديتاك) قد قاربت بنتائجها التقديريّة للجولة الانتخابيّة الثانيّة النتائج الفعليّة لها، بعدما تعدّدت مصادر عيّناتها وتقنيّاتها وحجم المستطلعين. وجاءت نتائجها بين 45% و51.1% في تأكيد المشاركة الانتخابيّة، وقد أجمعت على تفوّق بزشكيان وحصوله على نسبة تراوحت بين 49، 5% و54%، يقابله سعيد جليلي بنسب أقل تراوحت بين 41% و46، 6%. كما توافقت تلك النتيجة مع توقّعات المحلّلين والباحثين والخبراء المهتمّين بالشأن الإيراني بالبناء على نتيجة الجولة الأولى، حيث لم تفاجئ النتيجة إلا بعض المتحيّزين للمنافس الآخر ومن يمثّل، وهذا تعبير طبيعيّ عن رغبة صادقة بخياراتهم.
في الحصيلة، يبدو من الاختزال والسطحيّة في مكان إيجاز النتيجة بوصفها توقًا ورغبة شعبيّة بالإصلاح والانفتاح والانخراط بالتسويات! فهذا الأمر غير متنازع عليه بنحو كامل، ولا يجسّده اتّجاه دون آخر، إنما تبقى المقاربة المنشودة إلى الإصلاح والضوابط الضامنة للانفتاح المأمول “بعزّة واقتدار”، مع تقدير العوائد والمصالح المتماهية مع مبادئ الثورة، واعتماد الدقّة بالانخراط المحسوب في الصراعات والتسويات، والسؤال الثابت على طول خارطة الطريق: “كيف؟”.
إذ من الخطأ؛ بل الشطط، الزعم بأن النتيجة تعبّر عن “العودة إلى العقلانيّة الجديدة على نحو براغماتيّ باجتماع عوامل الجوع وانكشاف الزيف الأيديولوجي وفشل الجماعة المنغلقة على ذاتها في إدارة المجتمع والدولة في لحظة مجتمعيّة واحدة”. وذلك؛ لأن الوهم المركّب المسيطر على هذا الاستنتاج، إنما يفيض عن عقد نقص معرفيّة وفكريّة ونفسيّة وأخلاقيّة دون الوقوف على الواقع المجتمعيّ – التاريخيّ الإيرانيّ ببصيرة وموضوعيّة. فالجوع، وإن تواجد بحدود معيّنة، فهو لا يجتاح إيران، وعلاجاته جارية على سكّة الحل، والبنى العقديّة تختلف عن الأدلجة الماديّة التي تبني اقتراباتها على ما يظهر من الواقع من دون الإفلات من مواطن عجزها، وفكرة الجماعة المنغلقة على ذاتها في إيران إنما هي وليدة الحسد من تصدير الفكر الأصيل والاحتباس ضمن زيف الليبراليّة.
يخضع الفشل، كما النجاح، في إدارة المجتمع والدولة إلى ميزان العدل والحق في وعي الحقائق والوقائع من الإنجازات والإخفاقات. والفشل والنجاح عابران إلى كلّ التيّارات المتنافسة وممثّليها على الكرة الأرضيّة، فالفشل ليس سمة وصورة نمطيّة ملازمة لاتّجاه سياسيّ محدّد.
يكفي النظر إلى مسار التقدّم في إيران بعد 45 سنة من الحصار والعقوبات والحرب في عالم الغطرسة والهيمنة الاستكباريّة، والتأمّل في إنجازات الحكومات المتوالية والمؤسّسات الرسميّة وغير الرسميّة، في القطاعين العام والخاص في مختلف العهود الرئاسيّة الإيرانيّة، والتفكير بعمق في الارتقاء بالفعل المقاوم بما يمثّله من نتيجة عضويّة لنصرة إيران الإسلاميّة مختلف الشعوب والدول المستضعفة لا سيّما في منطقة غرب آسيا، حتّى تتضح معالم العقلانيّة الراسخة بضمانة إرشادات القائد الذي أمسك العصا من الوسط بقبضة حكيمة ورحيمة، وفي الوقت عينه بحزم عنيد في وجه الأعداء. ولا يمكن تجاهل المجتمع الذي أغرق الصناديق في لحظته الجديدة، من المحافظات الإيرانيّة كافة، مع تعدّديّتها الثقافيّة والقوميّة واللغويّة، وفي تعبيره الراقي والحضاري ممثلًا أغلب التيّارات الثقافيّة والسياسيّة.
نزاهة الانتخابات الإيرانيّة وصلف الاستكبار الأميركي
إن نتائج مشاركة الشعب الإيرانيّ، في الجولتين الأولى والثانية الانتخابيّتين لرئاسة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، رمّمت نسبتها ما يبدّد القلق من دون أن ترسي الأمان التام بانتقالها من نسبة 39.9% إلى 49.8%، لتتقدّم على نسبة المشاركة في الدورة الثالثة عشر – الأكثر انخفاضًا – حين بلغت 48% في العام 2021م. وهي نسبة ستكون موضع تأمّل ودراسة، وهنا تكمن أهميّة موافقة مجلس صيانة الدستور على أهليّة المرشّح الإصلاحي.
انعقدت الانتخابات الإيرانية، بجولتيْها الاثنتين، بكلّ دقّة وشفافيّة ووضوح ونزاهة، خلافًا لبيان الخارجية الأميركيّة حولها الذي نفى حرّيّتها ونزاهتها، كاشفًا عن الازدواجيّة الغربيّة وتحديدًا الأميركيّة من خلال تعليله ذلك بغياب عدد كبير من الناخبين.. فهل هذا ينطبق على عدد من دول الغرب نفسه؟ وعلى الدول الحليفة أو الصديقة لأميركا؟ وهل هو مقياس دائم على الانتخابات الأميركيّة وما يعتريها من خفّة التمثيل والذاكرة القريبة السيّئة لاقتحام الكونغرس وتبادل الاتهامات بشكل رديء؟ ثمّ ماذا عن كندا الدولة الوحيدة التي أضرّت بالديمقراطية الإيرانية إذ منعت علنًا مشاركة مئات الآلاف من الإيرانيين في الانتخابات الرئاسيّة الـ 14؟
نعم، يتضح الموقف الأميركيّ بما أردفته الخارجيّة في بيانها: “ليس لدينا أي توقع بأن تؤدّي هذه الانتخابات إلى تغيير جوهري، وإذا كانت الدبلوماسيّة تخدم المصالح الأميركيّة، فسوف نتّبعها”. فالموقف كلّ الموقف محوره المصالح الأميركيّة! أي الهيمنة الخارجيّة والاستكبار العالميّ الأميركيّ.
الاختيار تحت مجهر الاختبار؛ سببًا ونتيجة
تبقى عملية الاختيار ونتائجها تحت مجهر الاختبار من دون توقّف. إلا أن هويّة النظام وهندسته واقتداره وبوصلة استراتيجيّاته الثابتة والمشاركة الشعبيّة وحيويّتها واليأس الأميركي، إنّما هي مرتكزات ثلاثة ماسيّة: قوّة النظام وحضور الشعب وسخط العدو؛ في الطمأنينة وبثّ الأمل.
ما ينتظره غالبية الإيرانيّين من منصب الرئاسة هو امتلاك هوية قيميّة وجدارة عمليّة منسجمة مع مبادئ الثورة وتحدّياتها الواقعيّة، مترافقة مع إيجاد حلول كفوءة وفعّالة لما تواجهه الدولة وقضايا مجتمعها من مشكلات ومعضلات، والمضي قدمًا في تطلّعاتها وتمتين علاقاتها داخلًا وخارجًا. وذلك كي تصبح عملية تحقيق الشعارات والإمساك بمقاليد السلطة التنفيذية نقطة متجدّدة للرضا والقبول عند الشعب إزاء الرؤى والممارسات للتيّارات السياسيّة وممثّليها.
إنّ نتائج هذه الدورة الانتخابيّة لا تقطع مع السياق العام الذي رافق الجمهوريّة الإسلاميّة ببنيتها القياديّة والإداريّة وقدرتها على النهوض بوظائفها المتجدّدة. كما لا تقطع مع السياق العام لنتائج الانتخابات المختلفة ولا سيّما الرئاسيّة منها منذ انتصار الثورة ونشأة النظام، وهذا لا يقلّل من خصوصية هذه الانتخابات وموقعها من السياق العام؛ بل يموضعها بداخله جزءًا فاعلًا وحيويًا، له من التأثير على التالي من الاستحقاقات الانتخابيّة وتشكّلات قواها وتيّاراتها، كما كان لغيرها أثرها به.
فالانتخابات عمومًا هي “نتيجة” عمليّة للوعود والوفاء بها، للتصوّرات والاستراتيجيّات والممارسات المعتمدة للأحداث والتعامل معها، للعلاقات بين الاتّجاهات وعموم الناس كما ضدّ للعدو. كما هي “سبب”؛ لأن نتائج الانتخابات تلقي ببشارتها أو بإحباطها إزاء التوقّعات والانتظارات وإزاء التحدّيات والاستحقاقات.
المناظرات السبع ومؤشّرات ديناميات التوافق والاختلاف
مرّ الانتظام السياسيّ، داخل إيران الإسلاميّة، بديناميّته الخاصّة في تشكّلاته (الأحزاب أو التيّارات) من الحزب الجمهوريّ الإسلامي قبل التوجّه إلى حلّه (18 شباط 1979 – أيّار 1987)، ثمّ الثنائيّة العلمائيّة على مدار عقدين (روحانيت، روحانيون)، ثمّ حصل الانتقال إلى التعدّديّة من جديد. وهكذا أبرزت هذه الانتخابات الثنائيّة مجدّدًا في ضوء الأهليّة الممنوحة من مجلس صيانة الدستور.
تكشف المناظرات السبع التي حصلت، قبيل الجولتين الانتخابيّتين في هذه الدورة، عن بعض مؤشّرات ديناميّات التوافق والاختلاف بين المرشّحين حائزي الأهلية من مجلس صيانة الدستور للترشّح.
تمحورت المناظرات حول القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة وحول كفاءة الحكومة وكيفية حلّها لما تناولته من مسائل: التضخّم، البطالة، الضرائب غير المسوّغة، الفجوات الهيكليّة، الفجوة بين الشعب والحكومة، القرارات المهمّة غير الشعبيّة التي تتوقّف على رأي الخبراء، الوعود غير المتخصّصة، النهج القسري مقابل الانتقاد ضرورةً، الرواتب، قروض زواج الشباب، الخدمة العسكريّة الإجباريّة، حجب الإنترنت، إدارة النساء، الرفاهيّة للعائلات الإيرانيّة وحاجاتها من الطاقة، مافيا السيارات، الجمع بين القوّة الصارمة والقوّة الناعمة، الجمع بين الدبلوماسيّة والميدان، الجمع بين التفاوض والمقاومة، الجمع بين التضامن الاجتماعي وسلطة الحكومة، الاهتمام بالبيئة، المساعدة في تشكيل مؤسّسات اقتصادية قويّة ومبتكرة وقائمة على المعرفة، مكافحة الفساد والرشوة، منع المحسوبيّة والتهريب والعمليّات الماليّة السوداء، زيادة الحصة الاقتصاديّة للبلاد، تنفيذ سياسات الباب المفتوح للإيرانيّين في الخارج، التبادل الاقتصادي مع دول الجوار، سوق الأوراق الماليّة، تثبيت أسعار الفائدة المصرفيّة، وأسعار التعرفة الضريبيّة. المؤشّر المستقبلي للاقتصاد الإيراني، الهيكل الإداري، بناء البنية التحتيّة للحكومة الإلكترونيّة، أسعار البنزين، توزيع دعم الطاقة، تحفيز إنجاب الأطفال، إعمار البلاد وازدهارها، الرعاية الصحيّة، الابتعاد عن خطة العدو، المجادلات السياسية، الإنجاز في الوقت المحدّد.
هذا يعني أن المسؤوليّة جسيمة في ظل تطوّر إيران في حجمها وانتشارها الديموغرافي، وفي موقعها وأدوارها ومسؤوليّاتها تاليًا تجاه الداخل الإيراني ومشاريعها وعلاقاتها مع الدول والشعوب ومع حركات المقاومة.
وعليه، يبقى التعاون والتفكير المناسب بين الاتّجاهات السياسيّة في إيران، والإفادة إلى أقصى حدّ من مقدّرات البلاد الوفيرة من أجل استقرار البلاد وتقدّمها وازدهارها وعزّتها، ومن أجل تحقيق آمال الشعب المضحّي، والتطلّع إلى الآفاق البعيدة والمشرقة، واستكمال نهج الشهيد “رئيسي”. والاستمرار هو سند قوي وثابت ودائم للمقاومين والمظلومين من جميع حركات المقاومة في المنطقة التي تخوض نيابة عن شعوبها منذ سنوات طويلة مواجهة مفتوحة مع قوى الاحتلال الصهيونيّ ومشروع الهيمنة الأميركيّة، حتّى تحقيق النصر النهائيّ الذي تبقى ركيزته الأساسيّة إيران الإسلاميّة.
هذه هي معالم النجاح التي حدّدها قائد الثورة والدولة والأمة الإسلاميّة الإمام الخامنئي للدورة الرئاسيّة الرابعة عشر، والتي لاقاها سيّد حركات المقاومة في المنطقة سماحة السيّد حسن نصر الله ببشرى النصر الموعود.
المصدر : العهد الاخباري