الإعلام الحربي.. هذا صُنع ذو الفقار
سنواتُ الغياب أصبحت ثمانية. الأثرُ عظيمٌ والذِكرُ حاضرٌ. بئرُ الأسرار ما زالت فيّاضة، والحكايا تتدفّق. الحديثُ عن القائد الشهيد السيد مصطفى بدر الدين مليءٌ بالشغف الذي يحملنا لاستكشاف المزيد عن جَسارته، وصَرامته، وصلابته، وكدِّه وما أنجز.
باكرًا، تلمّس السيد ذو الفقار، كما كان يُنادى في معشر العسكر، أهمية الصورة في عمل المقاومة. الغاية المنشودة حفظ إنجازات المقاومة وشنّ حرب نفسية في صفوف العدوّ عمادُها الكاميرا. إلى العُمق الأبعد في المواجهة مع رتل المحتلّين، نظّر قائد العمليات العسكرية المركزية في المقاومة من أجل تحطيم معنويّاتهم وما يرجون من مشاريع.
عند الغوص في أدوار السيد ذو الفقار خلال عُمر الجهاد، يرِدُ الإعلام الحربي في المقاومة كأحد أهمّ الإنتاجات أو المشاريع المتقدّمة والمستمرّة في رؤية القائد العسكري للمقاومة في التسعينيات. بُعيد انطلاقة حزب الله في العام 1982، وعقب سلسلة عمليات عسكرية استهدفت نقاط العدوّ وتحصيناته، لاحظ السيد أن تصوير لحظات الاقتحامات والهجوم ضرورة توازي العملية العسكرية بحدّ ذاتها.
الصورة أساس
تلقّف السيد “لزومية” الإعلام. كان قد عَلِم كيف رافقت الكاميرا المجاهدين بين عامي 1982 و1983، وكيف كانت تُدار عمليات التصوير من قبَل أعضاء ما كان يُعرف باللجنة الفنية للعمل الإسلامي. اطّلع على مشاهد عملية “وادي جيلو” في 1983 كونها أوّل عملية مُصوّرة، راقَبَ تصوير عمليتيْ سجد 1986 والدبشة 1994 التي تَعمَّقَ في أهميّتها، خاصة أنها فاتحة العمليات التي تخلّلها رفعٌ للراية الصفراء على الموقع المعادي وتوجيهاتٌ مباشرة للمُصوّرين الحربيّين أثناء التنفيذ، ثمّ انتقل إلى الفِعل في العاميْن 1995 و1996.
مع تكليفه بمسؤولية قيادة عمليات المقاومة عام 1995، أعطى السيد أولوية للعمل الإعلامي. الأهمية وُزّعت على المُقاتلين والمُصوّرين، فالجهاد واحد. لأجل ذلك، باشر السيد في ترجمة ما صمّم من مبادئ وأفكار تدعم مدفع المقاومة وتُصيب العدوّ في الميدان وعبر الشاشات في آنٍ معًا. استدعى من كان يعمل في التصوير، وجَمَعَ الطاقات والكفاءات لهدف أساسي هو تحفيز طاقم العمل الإعلامي لحفظ إنجازات المقاومين وضرب معنويات “الإسرائيليين”. صحيح أن الفريق لم يكن مُكتملًا في أوّل جلسة بعد حرب نيسان 1996، ولم يكن يتعدّى عديده أصابع اليد الواحدة، إلّا أن الجميع تجاوب مع توجيهات السيد لجهة ضرورة إيلاء الإعلام أهمية قصوى.
تقول المعلومات إنه بعد هذه الجلسة، أوفد السيد فريقًا إلى الجنوب لتصوير عمليات إطلاق صواريخ الكاتيوشا، وأشرف على إنتاج “فلاشات” للاستشهاديين (مقاطع مصوّرة قصيرة)، ولا سيّما سرايا الاستشهاديين الأمر الذي كان له وقعٌ وتأثير كبيران لدى العدو.
العناية الاستثنائية بتجهيزات الإعلام
يستذكر أحد رفاق السلاح أن النقد الإعلامي للإخراج الفنّي لعمليات المقاومة كان يُسيطر على شخصية السيد ذو الفقار، وكان يظهر ذلك في أكثر من عملية تُعرض على الشاشات. غاص السيد في تفاصيل الوصيّة المسجّلة للاستشهادي صلاح غندور – ملاك (1995)، وخلُص وقتها إلى أن الصورة لم تكن بالمستوى المطلوب. لأجل ذلك، استفسر عن السبب، وأوعز بمعالجته صارفًا الإمكانيات لشراء عدسات تصوير احترافية ولو كانت مُكلفة. وبالفعل، اختلف الوضع وبات تصوير الاقتحامات وتفجير العبوات وحتّى الوصايا دقيقًا وواضحًا وقريبًا، إلى أن أصبحت الكاميرا مركّزة على الدشمة مباشرة.
مع تلاحق العمليات واتساع رقعة المواجهة مع قوات الاحتلال، نوّع السيد معايير وظائف الإعلام الحربي. يُدبّر ويُحضّر ويُشرف ويَحضُر ويُشارك في صناعة المواد التي تصدر وتُبثّ عبر قناة المنار حصرًا في حينها. بين الـ1996 و1997، كثّف الانتاجات الإعلامية التي تستهدف تهديد المستوطنات، كان أبرزها “فلاش” صفد وإحداثيات نقاط العدو.
الحضور الجريء
بعد 1996، بادر السيد ذو الفقار إلى عقد مؤتمر صحافي في منطقة إقليم التفاح وجَمَعَ الإعلام المحلي والأجنبي، والهدف بثّ المعنويات في جمهور المقاومة وإطلاق حرب نفسية بوجه العدو. أدار اللقاء وتحدّث شخصيًا فيه بصفته القائد العسكري للمقاومة. في المشهدية، يتقدّم تعامله المباشر مع أهل الإعلام لشرح حيثيات وتفاصيل عمليات المقاومة، وليبعث رسائل التهديد والوعيد للمحتلّ، مُرسيًّا معادلات النار والكاتيوشا ودكّ المستوطنات.
تنظيم الجسم الإعلامي
“كدّس” حزب الله 10 سنواتٍ من الخبرة في مجال تصوير العمليات على جبهات القتال. في العام 1997، قرّر السيد أن يرفع مستوى الأداء. جَمَع فريق الإعلام الحربي، أمّن له مركزًا مستقرّا في بيروت بتجهيزات واسعة تلبيّ احتياجاته، وأصبح تابعًا له مباشرة. لم يكتفِ عند حدود ذلك. تحت عنوان الارتقاء بالعمل، أوفد مجموعة إلى إيران وأخضعها لدورة تخصّصية مُكثّفة أشرف عليها أساتذة جامعات لامعون كان في مقدّمتهم المخرج الشهير والدكتور نادر طالب زاده، وأصرّ على عدم عودتهم إلّا حاملين لشهادات مميّزة، على اعتبار أن إعلام المقاومة يجب أن يصل إلى أعلى جودة فنية يُضاهي بها العالم.
الوصية.. تقليد جهادي
كذلك رسّخ السيد ذو الفقار قاعدة ثابتة إلى الآن في عمل المقاومين والإعلام الحربي: الوصيّة المُسجّلة للشهداء والاستشهاديين. اعتبارًا من عام 1997، اعتُمد هذا كتقليد جهادي، وأبلغ المحاور بالسيْر به. لا نقاش في المَهمّة التي تحوّلت إلى واجب جهادي قُبيل تنفيذ العمليات العسكرية. الوصايا وما تضمّ كانت لزومًا مُلتصقًا بكلّ من وهب عمره وتوجّه إلى الجبهة، عاد حيًّا حاملًا راية النصر أم شهيدًا.
السيد في ميدان الإعلام الحربي
تتجلّى عناية السيد بالإعلام الحربي ومتابعته له في إحدى عمليات المقاومة النوعية: اقتحام موقع بيت ياحون (1999). الإنجاز المُحقّق أدّى إلى تدمير الموقع المُعادي بمن فيه بعد تجاوز كلّ استنفارات الاحتلال وخُطط التحصين التي كان قد اعتمدها في موقعيْ حداثا وبرعشيت. بقدر ما كان الصيد ثمينًا ومُؤلمًا، بقدر ما كان حِرْصُ السيد الحاضر في الميدان باديًا بين ثلّة المُقاتلين المُقتحمين لجهة الاطمئنان إلى جهوزية مصوّر الإعلام الحربي وقدرته على التقاط كلّ تفاصيلها. يومها، استفسر منه قُبيل تنفيذ العملية، فأجابه بأنه يحتاج بعض الوقت ليُمسك كلّ الزوايا. على الرغم من استعداد المُجاهدين للالتحام، ربطَ السيد بداية الانطلاق بإمكانية المصوّر على الإمساك بالمشهد من ألفه إلى يائه. حين تأكّد، أذِن بالهجوم. الصورة والسلاح قوّتان متساويتان في قاموس السيد.
بمنطق السيد أيضًا، كان شكل المقاوم في الجبهة وفي الصورة المحفوظة له في الإعلام مهمًّا. يقول أحد رفاق السلاح إن للسيد دورًا كبيرًا في “ترتيب” المجاهدين. الجسم الإعلامي نُظّم شكلًا ومضمونًا بمعيّة المسؤول العسكري للمقاومة، وكذلك هيئة المقاومين. القاعدة أن تكون حالة المقاتل الخارجية بأبهى حلّة في الجبهة. لم يعد رفاق السلاح يصعدون إلى المحاور من دون بزّة عسكرية مُوحّدة.
التطوّر عقيدة
في البنية الإعلامية التي أنتجها السيد ذو الفقار، تطوير الطاقات كان توصية مطلوبة من كلّ الجسم؛ ألّا يكتفوا بدورات يتيمة للتدرّب وصقل الخبرات، بل على الجميع أن يلتحق بكلّ تدريب تقنيّ من شأنه أن يُفيد المُصوّرين والمُخرجين والفنيّين.
تباعًا، بدأ السيد ذو الفقار بتوسعة خريطة مراكز الإعلام الحربي. بعد بيروت، خصّص مركزًا في الجنوب يضمّ 13 مجاهدًا مُنكبّين على تصوير وتوثيق العمليات العسكرية عبر تشكيل فريق في الجنوب والبقاع الغربي، وكان من أبرز الإنجازات التي وقّعتها المقاومة وصوّرها شباب الإعلام الحربي في البقاع الغربي عملية تصفية قائد قوّات الاحتلال “الإسرائيلي” في جنوب لبنان ايرز غيرشتاين عام 1999.
سلّح السيد ذو الفقار الإعلام الحربي بكلّ الإمكانيات المطلوبة. بالنسبة له كانت الغاية هي إشباع أيّ حاجة قد تُعيق أو تُؤخر عمل إعلاميي المقاومة على الجبهة. لذلك كان يأمر بصرف الموازنات التي تؤمّن خدمات المونتاج، وتدعم الإعلام الحربي بالموارد والطاقات والتجهيزات الحديثة التي توازي تجهيزات القنوات المحلية والعربية آنذاك لإنتاج المادّة كاملة في مراكز الإعلام الحربي.
حضور عمليات الإعلام الحربي في الانتاج كان مهمّةً شبه واجبة في نشاط السيد ذو الفقار، ولا سيّما في العمليات النوعية، إذ كان يُشرف على المادّة التي ستُنشر وفقًا لمعايير المقاومة ومحاذيرها وأهدافها وسياساتها وضوابطها. يُعطي توجيهات مباشرة، ويسأل ويستفسر. ولتسيير الأمور، يحرص على تسهيل حركة المصوّرين أثناء تنفيذ العملية ليستطيعوا تسجيل كلّ لحظة فيها، ومن أجل ذلك، مَنَحَ شباب الإعلام الحربي بطاقات تُسهّل تنقلهم في محاور الجبهة بلا عراقيل.
بنى السيد مصطفى بدر الدين قوّة عسكرية نظامية وتشكيلًا إعلاميًا مستمرًا ومقاومةً تقدّمت وأنجزت وحقّقت انتصارات تاريخية. عوّل كثيرًا على دور الإعلام في الجبهة، طوّره وبات إلى اليوم صدقة جارية، باعتراف رفاق السلاح والصورة. يقول أحدهم إن العمل تحت جناح السيد كان تطوّرًا دائمًا، لا مكان للمحاذير. ضخّ في نفوس من لازموه في أروقة الإعلام الحربي ثقة استثنائية بالقدرة على كسْر هيبة العدو عبر صناعة محتوى مصوّر يدعم صواريخ المقاومة، يُصيب بها قلب العدوّ ويُحطّم آلة كذبه وبروباغندا الرعب والقوّة المزعومة التي تُخيف فقط ضعاف النفوس.
المصدر: العهد الاخباري