أردوغان والمهمّة الأميركية الجديدة
جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق في مرحلة حرجة تمرّ فيها المنطقة التي تشهد صراعًا شرسًا ومستمرًا وحربًا همجية تشنها “اسرائيل” على قطاع غزّة، منذ ما يقارب سبعة أشهر، توسّع إلى معركة بين محور المقاومة والكيان الصهيوني وحلفائه، كان آخر فصولها وأكثرها تأثيرًا الهجوم الجوي والصاروخي الإيراني على الكيان الصهيوني في 14 من الشهر الحالي، والذي جاء ردًا على العدوان الصهيوني على القنصلية الإيرانية في دمشق. فقد شكّل الرد الإيراني حدثًا استراتيجيًا مفصليًا خلّف نتائج استراتيجية وجيوسياسية عميقة، وأوجد قواعد اشتباك جديدة في المنطقة.
ما قبل “طوفان الأقصى”:
شهدت المرحلة التي سبقت “طوفان الأقصى” تراجعًا نسبيًا للدور التركي كونه جزءًا من المنظومة الأميركية في المنطقة، وامتد ذلك منذ محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في العام 2016 بعد فشل مشروع “الربيع العربي” ومرورًا بمشاريع الطاقة في المنطقة (منتدى غاز شرق المتوسط) وحلف النقب ووصولًا إلى مشروع الممر الهندي الشرق أوسطي- الأوروبي.. في كلّ هذه المشاريع جرى استبعاد تركيا منها بقرار أميركي، وترافق ذلك تأرجح في العلاقة مع واشنطن استمرت حتّى انتخابات الرئاسة التركية في ربيع العام الماضي، والتي حُسمت لمصلحة أردوغان.
لقد شكّلت قمة “بريكس” التي عقدت في جنوب أفريقيا في آب/اغسطس من العام الفائت، والتي أقرت دعوة ستة دول للانضمام إلى المجموعة- من بينها أربعة دول شرق أوسطية، منها ثلاث دول حليفة للولايات المتحدة- حدثًا كارثيًا بالنسبة إلى واشنطن التي أطلقت حملة مضادة لعرقلة توسّع “بريكس”؛ فأثمرت إبعاد الإرجنتين وتأخر السعودية للقبول بالدعوة. ولأجل ذلك، طرحت واشنطن على عجلٍ مشروعًا بديلًا للتشبيك الإقليمي والعالمي بين دول الجنوب والشمال، ونقصد مشروع الممر الهندي- الأوروبي عبر الإمارات والسعودية مرورًا بفلسطين المحتلة إلى أوروبا. وجرى استبعاد تركيا ومصر من المشروع في صيغته الأولى، وركزت واشنطن على إنجاز التطبيع السعودي- الإسرائيلي خيارًا استراتيجيًا لإنجاح المشروع وتوسعة حلف النقب، ما يضمن لها استمرار قبضتها على المنطقة.
ما بعد “طوفان الأقصى”:
جاءت عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بعد أقل من شهرين على إعلان مشروع الممر الهندي، وأسهمت في التشكيك بإمكان تنفيذ هذا المشروع إلى حد يقارب استحالته، خاصة أن التطبيع السعودي – الإسرائيلي بات معقّدًا بفعل العدوان الوحشي الذي تمارسه “إسرائيل” بحق الفلسطينيين في قطاع غزّة، وعجز واشنطن عن تمرير حلول سياسية تضمن لها إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الطوفان، ودعمها للعدوان الإسرائيلي واستخدامه ورقةَ ضغط لتمرير استراتيجياتها وسياساتها التي تضمن لها استمرارًا للسير بمخطّطاتها الجيوسياسية.
وفي رسالة واضحة لواشنطن، حرصت تركيا طوال الأشهر الخمسة الأولى من الطوفان على اتّخاذ مواقف سياسية رمادية من الحرب الإسرائيلية على غزّة، واكتفى مسؤولوها ببعض التصريحات الإعلامية التي ركزت على إدانة رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو من دون توجيه اتهام مباشر لـ”إسرائيل”، بل إن تركيا- وباعتراف الإعلام التركي وقوى المعارضة التركية- استمرت في تجارتها مع الكيان الصهيوني وراح الإعلام التركي يتحدث عن مئات السفن التركية التي تنقل البضائع المتنوعة للكيان الصهيوني.
إعادة الحسابات الأميركية:
تلقفت واشنطن الرسائل التركية، في ظلّ الإنسداد الحاصل بوجهها في الإقليم، بفعل نتائج “طوفان الأقصى” والمأزق العسكري والسياسي الذي وقعت به نتيجة صمود المقاومة في غزّة والضغط المتصاعد لجبهات الإسناد وانعكاس ذلك على نفوذها الإقليمي وهيبتها على الصعيد الدولي، وفشل حلفاء واشنطن العرب في احتواء النتاىج والأحداث التي أفرزتها المعركة.
اختارت واشنطن الزج بالدور التركي مجدّدًا في اللعبة الإقليمية، وكانت البداية مع مصر؛ حيث شجعت واشنطن على التشبيك المصري- التركي، والذي توج بزيارة أردوغان إلى القاهرة بهدف إعادة رسم معادلات إقليمية جديدة لمواجهة نتائج الصراع الدائر، ثمّ استغلت واشنطن نتائج الانتخابات البلدية التركية التي مُني فيها أردوغان بخسارة تاريخية، والتي على ما يبدو زادت من ارتهانه لواشنطن وانقياده لها ومن حاجته لدور جديد لمعالجة آثارها، خاصة أن تلك النتائج وصفت أنّها عقاب له على مواقفه المتردّدة من الحرب على غزّة.
ما بعد الردّ الإيراني:
لعلّ أهم النتائج التي أفرزها “طوفان الأقصى” والمعارك التي تخوضها جبهات الإسناد، منذ ذلك الوقت، تمثلت بتوحد شعوب المنطقة للمرة الأولى منذ عقود ضدّ الكيان الصهيوني. وغاب عن المشهد الحديث صراعات مذهبية سنية/شيعية، لطالما عملت واشنطن والكيان الصهيوني على تغذيتها، وأسهم الدعم الإيراني غير المحدود للمقاومة، سياسيًّا وعسكريًا وإعلاميًا، عاملًا رئيسًا في ذلك، قبل أن يأتي الرد العسكري الإيراني المباشر ليثبت حقيقة الصراع في المنطقة.
أدركت واشنطن خطورة تلك النتيجة ووجدت في أردوغان ضالتها، وأن الوقت قد حان لإعادة الزج به على أوسع نطاق، وهو الطامح للعودة بقوة إلى الساحة وبتكليف أميركي، فاختارت واشنطن أن تعيد توزيع الأدوار بين حلفائها الإقليميين، وتسلّم الدفّة لتركيا بعد فشل مصر وقطر، طوال ستة أشهر في تمرير المخطّطات الأميركية.
تلميع أردوغان مجددًا:
تكليف أردوغان بقيادة المهمّة الأميركية الجديدة في المنطقة يحتاج إلى إعادة تبييض صفحته، وتعويم دوره من جديد، ولأجل ذلك لجأت إلى إجراءات عدة:
• قام الإعلام التركي، ومنذ شهر تقريبًا، بتغطية حصرية للأحداث في غزّة، وتحولت غزّة إلى المادّة شبه الوحيد للإعلام التركي، وكذلك لتصريحات المسؤولين الأتراك وعلى رأسهم أردوغان.
• دعت تركيا رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية لزيارتها، وجرى التركيز على هذه الزيارة في الإعلام التركي ومن المسؤولين الأتراك، وظُهّرت مواقف هنية التي شكر فيها تركيا على موقفها وأشاد بتصريحات رئيسها حول غزّة في وسائل الإعلام، وبمعنى آخر فقد استغلت انقرة تلك الزيارة لتعويم الدور التركي.
• “إسرائيل” هي الأخرى رأت استقبال أنقرة لإسماعيل هنية عارًا، لكنّها لم تفعل الشيء ذاته عندما زار هنية القاهرة، وكأنها تريد القول بأن “أردوغان داعم للفلسطينيبن”.
• كذلك مصر تبدو وكأنها أوكلت المهمّة لأردوغان بعد أن فشلت بها، ولعل زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى أنقرة ولقائه مع أردوغان، بحضور وزير الخارجية ورئيس المخابرات التركية، والذي جرى خلالها مناقشة الأوضاع في غزّة، هي أدل دليل على ذلك.
مسرحية “مرمرة 2”:
يستعد أردوغان من جديد لإطلاق الجزء الثاني من مسرحيته “مرمرة 2” لكسر الحصار المفروض على غزّة، بحسب ادعاءات الإعلام التركي. ومن المقرر أن تنطلق “مرمرة 2” مطلع الأسبوع القادم نحو غزّة، وعلى متنها 1000 ناشط و5500 طن من المساعدات بعد أشهر من السكوت على الحصار والتجويع، وفي الوقت الذي كان فيه أبطال اليمن- وما يزالون- يعلقون الممرات المائية بوجه السفن الإسرائيلية والمتعاملة مع الموانئ الإسرائيلية لغاية رفع الحصار عن غزّة.
من غير المستبعد؛ أنه بعد اكتمال ميناء بايدن سيسعى أردوغان إلى اختلاق مشكلة مزعومة بالتنسيق مع “تل أبيب” وواشنطن تنتهي بإلزام سفن المساعدات بالمرور على ميناء أسدود للتفتيش قبل أن تفرّغ حمولتها في ميناء بايدن، وبالتالي شرعنة ما يجري التخطيط له عبر هذا الميناء، وقطع الطريق لاحقًا على أي محاولة لتقديم مساعدات من خارجه. .ومن جانب آخر؛ المطلوب هو حرف الأنظار عن الدعم الذي تتلقاه المقاومة الفلسطينية في غزّة من جبهات الإسناد، وخاصة بعد الرد الإيراني الذي أكد الدعم المباشر والعلني والواضح.
طريق التنمية العراقي:
وفقًا لكل تلك المعطيات، تأتي زيارة أردوغان إلى العاصمة العراقية بغداد، والتي شهدت توقيع 26 اتفاقية ومذكرة تفاهم في مجالات أمنية وعسكرية واقتصادية وتجارية. ولكن الموضوع الأهم في الزيارة هو “مشروع طريق التنمية” الذي يربط الخليج بتركيا عبر العراق. ولعل هذا المشروع هو الثمن الذي سيقبضه أردوغان مقابل مواقفه المخزية من الحرب على غزّة والمكافأة التي سيتلقاها مقابل مهمته الجديدة، تمامًا كما كان “مشروع رأس الحكمة” الإماراتي ثمنًا للمواقف المخزية للسيسي من الحرب على غزّة.
ما لا بد من الإشارة إليه، أيضًا، هو أن كلا المشروعين يعدّان مسارين فرعيين واحتياطيين لمشروع الممر الهندي- الأوروبي، وكذلك لممر شمال – جنوب الإيراني.
أخيرًا؛ إن واشنطن تسعى لإعادة بناء التحالفات الإقليمية، وهذه المرة من البوابة التركية.. ولعل تصريح أردوغان الذي أطلقه تعليقًا على الرد الإسرائيلي الفاشل والهزيل على الضربات الإيرانية؛ بقوله إنه لا يعتقد:” أن المسؤولين الإيرانيين يقولون الحقيقة”؛ لعله خير دليل على قبوله بالمهمّة الجديدة الموكلة إليه.
المصدر: العهد الاخباري