منوعات

“يوم القدس”.. إعادة تشكيل الخارطة

“إن الأمة في حال تعرضها لفقدان إرادتها وعدم شعورها بوجودها كأمة؛ تنشأ لديها بالتدريج أخلاقية معينة هي أخلاقية الهزيمة، وأخلاقية هذه الهزيمة تصبح قوة كبيرة جدًا بيد صانعي هذه الهزيمة لإبقاء عنوان الهزيمة وإمرارها، وتعميقها وتوسيعها، ويصبح العمل الشجاع تهورًا والتفكير في شؤون المسلمين استعجالًا، ويصبح الاهتمام بما يقع على الإسلام والمسلمين من مصائب وكوارث نوعًا من الخفة والاندفاع”.. من مفتتح محاضرة “التخطيط الحسيني لتغيير أخلاقية الهزيمة”، للشهيد الإمام السيد محمد باقر الصدر.

من المثير للحزن والغضب أن الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله،  وفي كلّ إطلالة منذ بداية “طوفان الأقصى” المبارك، يسوق الشواهد والدلائل والتصريحات على حيازة الأمة لهذا النصر الكبير على العدو. يقدم السيد من أقوال عصابة وزارة العدوّ وقادته العسكريين ما يؤكد “النكبة” التي تعصف بالكيان المتأكل الضعيف، والذي يقول بنفسه إنه يواجه في ميادين القتال ما لم يختبره طوال تاريخ وجوده من العام 1948، وإلى اليوم، وأن حربه الحالية هي للدفاع عن قلب الكيان وفكرة وجوده بحد ذاتها، وليس أقل من ذلك.

اليوم 182 للقتال في “طوفان الأقصى”، ما تزال الصواريخ الفلسطينية تنطلق مغردة فوق سديروت وعسقلان، تقول بأعلى صوت إنه لا هزيمة ممكنة لشعب قد قرر الحياة بكرامة. اليوم وبعد تدمير الاحتلال للمدينة وكلّ ما قاله سابقًا أنه دمّر مقرات قيادة لحماس، فما تزال المقاومة باقية قوية تسدد الضربات في كلّ مكان، وتوقع في صفوفه المزيد من الخسائر، وتقدم الشهداء، وترفض أن تنحني في مفاوضات أطراف الخيانة العربية مصر – قطر، وتجنبت ببراعة الوقوع في فخ منح قبلة الحياة لمؤامرات العدوّ وأصدقاء العدو.

قال سماحة السيد إن: “هناك من هو غير قادر على تقبّل أنّ الكيان هُزم في المنطقة، وهو غير قادر على استيعاب ذلك، نسمع عن سخافة أن كلّ ما يجري في المنطقة هو مسرحية أميركية- إيرانية وتوزيع أدوار، هؤلاء لا يمكنهم أن يصدقوا أيّ شيء عن انتصارات المقاومة في المنطقة فهؤلاء متوهمون، بل الواقع إن الانسحاب من جنوب لبنان والانسحاب من قطاع غزّة هو هزيمة لإسرائيل”.

يمكن ببساطة فهم أن بعض الأطراف في العالم العربي لا يستوعبون فكرة أن تحقق المقاومة نصرًا على الكيان، هؤلاء الانعزاليون الضعفاء الممتلؤن بفكرة الهزيمة حتّى العظم يؤمنون أن فلسطين قضية الجيران، وهناك حدودًا لما يمكن أن يقدمه أي شعب فيها من تضحيات للمساندة، لكنّهم في القلب يخاصمون الإيمان الحقيقي للمسلم بدينه وعقيدته وحتّى شرفه الإنساني المجرد، وسواء فهموا الآن أو لم يفهموا على الإطلاق، فهذه القضية الشرعية هي لب ممارسة الإسلام في صورته العادية والمباشرة، أيكون مؤمنًا من لا يهتم بأمر أخوانه ومقدساته، أيكون مسلمًا من يخلو من الغيرة على القدس والأقصى، ماذا بقى بعد من الدين إذًا؟!

إذا كانت لأعظم الأساطير الإنسانية الخالدة بطل واحد، في الغالب، فإن كلّ مجاهد على جبهات الشرف والعز من محور المقاومة يشعرنا جميعًا بالأمل وحتمية الانتصار، بل وشدة الاحتياج للتضحيات التي تمثل في حياة الأمم الحية والكبيرة قرابين مجدها ورفعتها وقيمها الرفيعة، ديمومة التذكير بهذه التضحيات الغالية من جبهات قدمت الأعز فالأعز في صراعنا مع الولايات المتحدة وقاعدتها العسكرية في فلسطين المحتلة أمر ضروري لنا، وهي تتويج ورمزية لكل هذا البطولات مجتمعة، في حسابات المجاهدين. فالكل يفخر بشهداء غزّة والجنوب وسورية والعراق وإيران، وإنجاز التحول الاستراتيجي من “أهداف” للعدو إلى سيوف تقطع شرايينه وتوقف الدم عن عروقه.

إن المقاومة العربية، وفي يوم القدس، وتزامنًا مع دخولها بقوة وقدرة إلى الشهر السادس من “طوفان الأقصى” المبارك رفضت أن تكتب قصتها استلهامًا من غيرها على طريقة فيتنام جديدة، ولا أفغانستان مكرّرة، ولا ستالينجراد العربية، بل كتبت القصّة العربية بدم عربي وبعز يليق بالإنسان العربي، ومنحتنا أسطورتنا النابتة من عمق المستحيل، هي لم تقم الحجة فقط على كلّ متخاذل في هذه الأمة التي مزقتها الأهواء شيعًا وجماعات و”أشباه دول”، بل إن محور المقاومة قدم الإجابة الصحيحة من قلب واقع العجز العربي البائس، من شعوب تكالبت عليها ضباع الدنيا لتتقاسم لحمها، إلى مجتمعات ناهضة ومندفعة بفورة إيمان وعزيمة وبأس لا يلين، وأن الشخصية العربية العبقرية التي تحمل في داخلها جذوة الحضارة حية متقدة، حوّلت ما يلوكه حكام العار من “شماعات” قلة الموارد والظروف الاقتصادية الصعبة، يحاولون أن يدراوا بها انسحاقهم وعجزهم وخيانتهم، إلى وقود حركة دائبة للأمام، تستكمل عقد إنجازات وانتصارات المقاومة وقصتها النبيلة في المنطقة.

إن جذرية وإيمانية فكرة “يوم القدس”، كما طرحة الإمام الخميني –قده – قد حوّل وهم أن دول الطوق المحيطة بفلسطين تخوض غمار الحرب واقعة تحت ظن كاذب جاهل أنها تدافع عن شعب فلسطين فقط، وتقف معه فيما يتعرض له من عدوان، بدوافع من روابط الأخوة والجوار، لكن “يوم القدس” يفرض على الذهن العودة لربط التاريخ بالحوادث والوقائع، والخروج بالحقيقية الاستراتيجية الكبرى، وهي أن الحرب في قلبها من أجل كلّ بلد عربي، ولكي لا يتحقق عزلها عن محيطها وتفتيتها، ومحاصرة دورها وفعلها وحياتها، وترقيمها كوجبة منتظرة بعد أن ينتهي الكيان من التهام غيرها.

المصدر : العهد الاخباري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى