قصة الرفات والأدمغة البشرية في المتاحف الأميركية (1)
مع ظهور فضيحة “متحف سميثسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي” وبالتالي انكشاف سرّ عشرات الالآف من الرفات والأدمغة البشرية التي ما يزال قسم كبير منها في هذه المؤسسة العريقة، برز اسم عالِم أميركي، على رأس قائمة الأشخاص الذين تصدروا هذا التاريخ المروع من السلوك الإنساني البربري المقيت لغايات عنصرية بحتة، تهدف فقط، إلى تدعيم سردية تفوق العنصر البشري الأبيض، وإثبات تسيّده على الشعوب الأخرى خصوصًا الملونين منهم، عبر توليه مهمّة جمع وإحضار أعضاء من الأجساد بطرق وحشية لم يسبقه عليها أحد.
من هو هذا العالم؟
يعدّ أليس هردليكا، واحدًا من أبرز علماء الأنثروبولوجيا في العالم، وكان يدير قسم الأنثروبولوجيا الفيزيائية في مؤسسة سميثسونيان لمدة 40 عامًا تقريبًا.
بدأ تركيز هردليكا على العرق في وقت مبكر من حياته المهنية. فعندما كان طفلًا، هاجر مع والديه ممّا يعرف الآن بجمهورية التشيك إلى مدينة نيويورك الأميركية. هناك، وفي سن الـ 19 عامًا ألهمه مرض حمى التيفوئيد الذي تعرض له آنذاك، على متابعة الطب في كلية الطب الانتقائي في نيويورك في تسعينيات القرن التاسع عشر، وبعد ذلك بوقت قصير عمل كطبيب، وتابع دراساته بكلية نيويورك للطب المثلي في مانهاتن.
أثناء فترة تدرّبه في مستشفى ميدلتاون الحكومي للمعالجة المثلية في نيويورك، طور هوسًا بقياس جسم الإنسان، مقتنعًا بأن اهتمامه سيؤدي إلى اكتشافات علمية مهمّة حول التنوع البشري، لا سيما أن علماء الأنثروبولوجيا وعلماء وأطباء آخرون، ممن أظهروا حرصهم على البحث في أصول الإنسان، ومقارنة الأجناس الأخرى، كانوا يجوبون العالم في ذلك الوقت، بحثًا عن أجزاء لأجساد بشرية، تخدم أغراضهم العلمية.
منذ وفاته في عام 1943 عن عمر يناهز 74 عاما، تلاشى اسم هردليكا والبقايا البشرية التي جمعها بشكل منهجي على مدى 40 عامًا من ألاسكا وأماكن أخرى عن الرأي العام. لكن إرثه المروع لا يزال قائمًا: لدى سميثسونيان ما لا يقل عن 30700 جزء من الجسم، بما في ذلك 255 دماغًا، تم جمع معظمها بواسطة هردليكا أو بتوجيهاته.
نظرية تفوق العرق الأبيض والعلاقة بجمع هذا الكمّ من الرفات والأدمغة البشرية.
في الحقيقة، اعتبر هردليكا، الأشخاص غير البيض أقل شأنًا، لذا قام بجمع أدمغتهم وأجزاء الجسم الأخرى، مقتنعًا بأنه يستطيع فك رموز العرق في المقام الأول من خلال الخصائص الجسدية، وفقًا لكتاباته وخطبه.
كان يُنظر إلى هردليكا على نطاق واسع على أنه خبير في العرق والاختلاف البشري، انطلاقًا من نظريته القائلة أن جميع أجزاء الجسم ستساعد في اكتشاف أصول البشر في الأميركيتين. ولهذا ظهر في الصحف بشكل متكرّر، وأثرت معتقداته على سياسات الحكومة الأميركية بشأن العرق.
أعطت منشورات هردليكا حول إنشاء مجموعة من الرفات البشرية للعلماء، مؤسسة سميثسونيان دافعًا كبيرًا لافتتاح قسم الأنثروبولوجيا الفيزيائية في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، وذلك وفقًا لما ورد في إحدى الصحف التي تمت قراءتها في سجل الكونجرس.
من هنا، وبصفته عالم أنثروبولوجيا للمعهد الباثولوجي لمستشفيات ولاية نيويورك، ومن أجل الحصول على أعضاء من أجساد بشرية مختلفة، سعى إلى البحث عن أماكن قد يموت فيها الفقراء والضعفاء. كما حثّ صناع السياسات في أميركا علنًا، على تبني قوانين تسمح لعلماء الأنثروبولوجيا بأخذ جثث لم يطالب بها أقاربها – أو تلك التي لم يتم التعرف عليها من قبل أقاربها، أو جاءت من عائلات لم تستطع تحمل تكاليف دفنها – من المستشفيات والمقابر.
ما يثير الصدمة، أنه أثناء عمله في المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي في مانهاتن عام 1902، استهدف هردليكا السكان الأصليين داخل الولايات المتحدة وخارجها، وبذل جهودًا متطرّفة، ووحشية في الغالب، للحصول على الرفات.
ولهذه الغاية، سافر هردليكا إلى سونورا بالمكسيك، حيث ذبح الجيش ما يقدر بنحو 124 رجلًا وامرأة وطفلًا من قبيلة ياكي. بعدها أقدم هردليكا، على قطع رؤوس رجال ياكي الذين قُتلوا في مذبحة سييرا مازاتان، وأعاد حوالي 12 جمجمة إلى المتحف لدمجها في دراساته حول العرق. كما أخذ هردليكا أيضًا الجمجمة الثالثة عشرة لرجل من الياكي تم شنقه على شجرة. لكن رفاته أعيدت في وقت لاحق إلى اتحاد مجموعات ياكي.
في العام 1903، تم تعيين هردليكا كمساعد أمين في سميثسونيان، وسرعان ما قام ببناء شبكة تضم عددًا من الأشخاص الذين يقومون بجمع أجزاء الجسم نيابة عنه، وجلهم من الباحثين في جنوب إفريقيا والفلبين، وأطباء وأساتذة في جامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، حيث أخبرهم أن سميثسونيان سوف يعوضهم عن العمل.
وفي مدينة سانت لويس الأميركية، توقع هردليكا أن يموت بعض السكان الفلبينيين الأصليين الذين كانوا معروضين (بشكل غير اخلاقي وإنساني كتماثيل) في المعرض العالمي لعام 1904 ـــــ وهو أقرب إلى قرية جرى ترتيبها مثل متنزه ترفيهي، يمتد على مساحة 47 فدانًا ومليئة بالمواطنين الفلبينيين، ممن تم الاتيان بهم من أربع قبائل أصلية، وكانت بمثابة حديقة حيوانات بشرية مجهزة ببذخ – أو “معرض إثنوغرافي” كما أطلق عليه المنظمون ــــــ لذلك وضع خططًا لأخذ أدمغتهم. وفي إحدى رحلاته إلى البيرو، جمع أكثر من 2000 جمجمة.
علاوة على ذلك، أرسل له الباحثون بقايا بشرية من الفلبين وجنوب إفريقيا وماليزيا وألمانيا وعبر الولايات المتحدة، تم جمعها من المستشفيات والمشارح والمقابر. أما اللافت، هو استحواذه على ما لا يقل عن 57 دماغًا من السود الذين ماتوا في الولايات المتحدة.
إشارة إلى أن بعض أجزاء الجسم التي جمعها هردليكا، كانت مخصصة لـ “مجموعة الدماغ العرقي” و”المجموعة العرقية للأحواض” التابعة لمؤسسة سميثسونيان، والتي حاول استخدامها لمقارنة الأجناس.
كما استغل هردليكا أبحاثه في ألاسكا لنشر النظرية القائلة بأن الأشخاص الأوائل الذين سكنوا أميركا الشمالية عبروا جسرًا بريًا في مضيق بيرينغ. مع العلم أنه، لسنوات عديدة، كان أثير جدل حول توقيت عبور هؤلاء الأشخاص المحيط الهادئ لأول مرة.
وتعقيبًا على ذلك، قال صموئيل جيه ريدمان، أستاذ التاريخ في جامعة ماساتشوستس أمهيرست، الذي كتب على نطاق واسع عن مجموعات المتحف من الرفات البشرية: “إن هردليكا كان مهووسًا بجمع الجثث وأجزاء الجسم لمؤسسة سميثسونيان”.
في المحصلة، كعادتها، في تكريم العنصريين وحتّى المجرمين، احتفلت السلطات الرسمية الأميركية بهردليكا في حياته، حيث أدلى بشهادة مهينة للشعب الياباني أمام الكونغرس، وكشاهد خبير في المحكمة حول الأجناس، والأهم أن مكتب التحقيقات الفيدرالي، استعان به للمساعدة في العديد القضايا.
المصدر: العهد الاخباري